أبي سبب حزني الدائم، فكيف أتعامل معه؟
2021-01-06 15:41:54 | إسلام ويب
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا طالب مجتهد في الثانوية العامة عمري ١٧ سنة، بعثت إليكم وكلي ألم وحيرة من أمري، -الحمد الله- على نعمه التي لا تحصى ولا تعد.
مشكلتي القديمة التي كبرت معي، وهي أن والدي دائما يؤلمني بكلامه، مشككا في، ودائما ينتقدني، سواء فعلت أم لم أفعل، وكان يضربني وأنا صغير السن حتى الآن.
والدي عصبي، وعندما أتكلم معه في شأني يكلمني بسخرية حتى وأنا كبير، حتى علمني الجبن والحزن والرهبة والأزمات النفسية.
لم يكفيه هذا، بل جعل يسخر مني في كل شيء أفعله بحجة أنها تربية، ويشهد الجميع أنني محترم، ولكن هو يرى أنني لا أستطيع فعل أي شيء سوى الأكل.
جدتي انتقلت للعيش عندنا بعد وفاة جدي، وقد ذاق أبي منها الكثير من المشاحنات بينها وبين أمي، حتى عشت في فترة أزمات نفسية منذ عام 2017 حتى الآن، وأصبحت حزينا مليئا بالذكريات الجديدة والقديمة، وكنت أعطي جدتي الدواء في مرضها، وكذلك فعلت في مرض والدي برا به، لكنه يتسبب في حزني دائما، لقد سئمت الحياة فماذا أفعل؟
أرجو الإجابة.
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلاً بك -أخي الكريم- ونشكر ثقتك بنا.
أحزنني ألمكَ الذي شاركتنا إياه، فمن الواضح أنك شاب على خُلق ودين، وأنك تسعى جاهداً لبر والديك، ولكن للأسف قد يخطئ بعض الأهالي في التعبير عن محبتهم وأسلوب تعاملهم مع أبنائهم -عن غير قصد- إلا أن خطأ الأهل يقع ضمن مسؤولية الآباء التي سيُسألون عنها يوم الحساب من الله تعالى ويُجزون على ذلك، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
من المهم أن نعرف أن تعامل الوالدين السلبي مع أبناءهم غالباً ما تعود أسبابه إمّا إلى:
- ضعف معرفتهم الصحيحة عن علم التربية.
- معاناة نفسية لديهم قد تعود إلى الطفولة نفسها (وهذا ينطبق على والدك، فهو قد عانى من والدته في طفولته)، وأحياناً العاملين معاً، أي أنت لست معني بشخصك في إساءة والدك لك على قدر ما أنت "نتيجة" لمعاناة أشخاص لم يتمكنوا من مواجهة مشاكلهم النفسية بشكل صحيح، مما جعلهم غير قادرين على التفكير السوي والتعامل السليم مع أبنائهم ومع من حولهم.
لذا أرى أن دورك الآن هو كالتالي:
أن تعي تماماً أن تصرف والدك خطأ بلا شك، ولكنه يخصه هو ولا يخص شخصك بشكل مباشر، كما شرحتُ لك، ودورك الآن يكمن في مسؤوليتك تجاه نفسك بأن تحميها من الأثر النفسي لتعامل والدك معك، وأن تُرفق ذلك مع برّك له.
لذا أرى أن أهم خطوة عليك القيام بها لتجاوز معاناتك هي تقوية مناعتك النفسية، فأنت بلا شك لا تستطيع تغيير والدك، ولكن بإمكانك أن تغير من نفسك، وتزيد من قوة شخصيتك وصلابتك النفسية، ومناعتك ضد المشكلات الخارجية، وأقترح عليك لتحقيق ذلك:
- تذكّر أن هذه الفترة طالت أو قصرت ستمر، وستصبح لك حياتك الخاصة، لذا باشر من الآن بالتخطيط لمستقبلك لتعيشه كما تحب وتتمناه، واجعل مبتغاك في كل خطواتك هو رضا الله -سبحانه- عنك، دون انتظارك لأية مقابل من والدك تجاه برّك له.
أي ركز بداخلك أن كل معاناتك ستصبح ماضٍ بالنسبة لك، واجعل هدفك أن تبني نفسك لتكون شاباً قوياً وواثقاً بنفسه ومتوازناً من داخلك ومتصالحاً مع نفسك وما مرَّ معك.
- هناك نقطة مهمة أريد التوقف عندها، وهي أن الله تعالى قد جعل هناك واجب على كل من الوالدين والأبناء.
فيما يخص واجب الأهل فهو أن يحسنوا في تربية أبنائهم، وأن يجتهدوا في المساواة والعدل فيما بينهم في الرعاية والعطية والهدايا والتعامل، وإظهار العاطفة ذكورا واناثا، وأي تقصير في ذلك فسيُحاسبون عليه بلا شك.
أمّا فيما يتعلق بواجب الأبناء فهو بر الوالدين والإحسان إليهما.
والنقطة الهامة هنا هي: أن العلاقة بينهما ليست بالمثل على الإطلاق، أي على الأبناء بر والديهم حتى لو بدر منهم إساءة لهم، فالبر ليس مكافأة للوالدين على حُسْن تعاملهما، بل هو واجب أوجبه الله على المسلم يلُزَم القيام به.
والبر هنا هو الإحسان دون انتظار النتيجة، أي مطلوب منك ومنا جميعا أن نعطي ونبرّ والدينا، وغير مُطالبين أن نجني.
وفي حالتك مع والدك، فهذا ابتلاء واختبار لصبرك وإيمانك وإحسانك لوالديك، فإن بررت والدك وأحسنت إليه مع إساءته فهذا هو أعظم درجات البر، وله ثوابه الكبير.
وهنا دعنا نتوقف عند الآية الكريمة: "وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} لقمان 15، فالله يأمر المسلم أن يُحسن إلى والديه الكافرين والذين يأمرانه بالكفر بالله، ولم يجعل أمر الوالدين للولد بالكفر مُسّوغاً للإساءة إليهما، بل أمره بالمصاحبة بالمعروف، بالرغم من كل ذلك.
والمعروف هو العطاء دون مقابل، أي دون انتظار الرد، وهذا ما أريدك التركيز عليه، أي اجعل دافعك في بر والدك وفي تحمّلك لما قد يؤذيك منه هو رضا الله عنك وجزاؤه لكَ.
وأيضاً دعنا نستحضر قصة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- وكيف رماه أبوه في المنجنيق وسكب عليه الزيت وأراد حرقه وقتله، وعندما خرج من النار قال، سأستغفر لك ربي.
أي ما أريدك التركيز عليه في تفكيرك، أن أعظم أنواع البر هو أن يُحسن الابن، والوالدين أو أحدهما يسيئان، أو أن يعطي الابن، والأم أو الأب ينكران.
- إن الأسرة في حياة كل إنسان تعتبر بمثابة المرجع الأول في تعزيز شخصيته، ولكن في حالتك أنت من المهم لحماية نفسك من أذى والدك النفسي، عليك أن تجعل لك خيارات وبدائل أخرى تعزز من شخصيتك، وتقوي من ثقتك بنفسك، وتبني تقديراً عاليا لذاتك، وهذا بدوره سيقلل تلقائيا من تأثير والدك السلبي على شخصيتك ونظرتك لنفسك.
من هذه الخيارات:
- صحبة صالحة على خُلق ودين، وأن توطد علاقتك بهم قدر الإمكان، فالأصدقاء الإيجابيين يلعبون دوراً كبيرا في تقوية شخصيتنا وثقتنا بأنفسنا.
- التكثيف من انخراطك بالحياة الاجتماعية خارج المنزل مع أناس جدد لا يعرفونك سابقا، فهذا أيضا سيجعلك أكثر حرية في إخراج إيجابياتك وتعزيز شخصيتك.
- أن تقوي في شخصيتك وتحديداً صفات الشجاعة والجرأة (وهي عكس الجبن والرهبة الذي تحدثت انك تعاني منهم بسبب ما زرع والدك بك)، لذا لا يوجد شيء يعالج هذه الأمور أكثر من التعرض المكثف للجرعات الاجتماعية المختلفة ومع ناس جدد وغرباء عنك.
- حاول قدر الإمكان أن تبادر في أية موقف يحدث في حياتك اليومية، فالمبادرة تصقل الشخصية كثيرا وتقضي على الضعف والجبن والرهبة، بادر على أية مستوى (كلام، افعال، أفكار)، فشعور أنك مبادر بالحياة يجعلك تلقائيا تفتخر بنفسك وتقدر ذاتك.
- تابع فيديوهات تنمية الذات سواء لمختصين نفسيين او لمدربي الحياة، وهي موجودة بوفرة في اليوتيوب أو باقي تطبيقات التواصل.
- الخضوع لدورات تنمية الذات عبر الانترنت وقراءة الكتب حول تنمية الذات والشخصية وأنماط التفكير.
- من المهم جدا في رحلة تغيير الإنسان لنفسه، أن يكون إلى جانبه شخصا يدعمه ويساعده ويركز في إيجابياته ويرفع من معنوياته وهمته، لذا أتمنى منك إن لم يكن لديك شخصاً مقرباً يساعدك أو صديقا على ثقة يدعمك في هذه الفترة من حياتك، أن تعتبرنا نحن دائرة الدعم الخاصة بك، ويسرّني أن أبقى على تواصل معك في أي وقت تراسلنا وتحتاجنا فيه لدعمك.
أخيراً: قد يسيء الأهل إلى أبنائهم من تعنيف بأنواعه أو تهديم نفسي أو إهمال، إلا أن حقَّهم في البرِّ والطاعة في المعروف محفوظ بنص الشرع ، وإذا كان الله تعالى قد ذكر حق الوالد المشرك، بل والداعي لأولاده لأن يشركوا بربهم -عز وجل- بالبر والصحبة بالمعروف فلأن يكون ما دونه في السوء أولى وأحرى بذاك البر، وتلك المصاحبة بالمعروف.
وفي الجهة المقابلة -وبدون أية مجاملة- قد لمستُ في رسالتك كم أنك شاب على درجة عالية من الوعي والنضج، والعطاء وصفاء القلب والنفس، لذا أتمنى منك أن تتمكن فعلاً من الجمع بين بر والدك (بهدف كسب رضا الله ودون انتظار لأية مقابل منه)، وبين بنائك لمستقبلك، فأنت حقيقة تستحق أن يكون لك مستقبلا متميزاً كتميز شخصيتك التي لمستُها.
عليك بالدعاء وصدق النية، وأن تطلب من الله إعانتك على بر والدك، وكن على ثقة أن الله سيُعينك على مايقرّبك إليه، فقط أخلص النية واعزم الجهد، ولا تيأس من استمرار المحاولة.
ختاماً: أسأل الله الكريم أن يسر قلبك ويريح بالك، وأتمنى أن أكون قد أفدْتُكَ بإجابتي.
يسرّني تواصلك معنا مُجدداً في أي وقت وفي أي موضوع.
برعاية الله.