بعد فقد أولادي كرهت الدنيا وزهدت فيها، فأعينوني على الصبر!

2025-07-01 23:33:07 | إسلام ويب

السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فقدتُ ثلاثة من أطفالي الصغار، ولديْن وبنتًا، في حادث حريق مفجع وقع منذ عدة أشهر، كانوا لا يزالون في عمر البراءة، لم يكتمل وعيهم بالحياة بعد، ورحلوا عنها فجأة، ومنذ ذلك اليوم، وأنا أعيش في دوامة من الذهول وتأنيب الضمير، ألوم نفسي رغم أن ما حدث كان فوق طاقتي، إذ كنّا نيامًا حين اندلع الحريق، ووجدت نفسي عاجزة، مشلولة بالفزع.

ورغم الألم، لم أنطق بكلمة اعتراض واحدة -الحمد لله-، كل ما فعلته أنني بكيت وبكيت، ثم صبّرت نفسي بالقرآن، وأكثرت من الصلاة والذكر، أُحاول أن أتشبث بما يُبقيني واقفة، أن أستمد القوة من الإيمان.

لكن الحزن يسكنني، والمرارة لم تغادر قلبي، أشعر أن الحياة توقفت منذ ذلك اليوم، أنني لم أعد أنا، وأن كل شيء قد انهار، أصبح البيت صامتًا موحشًا كئيبًا، وكأن الأرواح التي كانت تملؤه ذهبت ولم تترك سوى الظلال.

كرهت الدنيا، وزهدت فيها، ولولا يقيني برحمة الله، لكنت فقدت صوابي أو أقدمت على ما لا يُرضيه (الانتحار) -أستغفر الله-.

أرجو أن ترشدوني إلى ما يطمئن قلبي، ويطيب خاطري، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابــة:

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ الصابرة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -أختنا الكريمة- في استشارات إسلام ويب.

أولًا: نسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أن يعظم أجركِ في مصيبتك، وأن يخلف عليكِ خيرًا مما فقدتِ، ونحن نذكّركِ -أيتها الأخت العزيزة- أنه لا يمكن لأحد أن يموت إلَّا في الأجل الذي قدّره الله تعالى له، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأحقاف: 4]، وقد قال الرسول ﷺ: «لَنْ تَمُوتَنَّ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا»؛ ولكل أجل كتاب.

فلا ينبغي أن تحزني كثيرًا لموت أولادكِ، وتؤنبي نفسك، فإنهم سيموتون بهذا السبب أو بغيره، في الوقت الذي قدّره الله تعالى لهم أن يموتوا فيه، فكل شيءٍ قد كُتب قبل أن نخرج نحن إلى هذه الدنيا، وقد قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚإِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23].

فأخبرنا -سبحانه وتعالى- أن كل شيءٍ قضاءٌ وقدر، وأن الله تعالى قد قدّره قبل أن يخلقنا، فكيف يصح بعد ذلك أن تؤنبي ضميركِ وتلومي نفسك لكونهم ماتوا بهذا الحادث؟ فهذا قدر الله تعالى السابق، وكان سيقع لا محالة، فتذكُّركِ لهذا القدر يهوِّن عليكِ -إن شاء الله- هذه المشاعر، ويخففها عنكِ.

وأمَّا موتهم وفقدكِ لهم، فهذه المصيبة أعَدَّ الله تعالى لكِ من الأجر فيها بقدر مرارتها وشدتها عليكِ، وقد جاءت أحاديث كثيرة عن الرسول ﷺ تُذكِّر الإنسان المؤمن بثواب أبنائه الذين ماتوا واحتسبهم، فقد قال أبو حسان التابعي، قال: "قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي إبنان، فما أنت محدثي عن رسول الله ﷺ بحديث تطيِّبُ به أنفسنا عن موتانا؟" فقال أبو هريرة: "نعم"، يعني سأحدثكم، ثم قال: «صِغَارُهُمْ دَعَامِيص الْجَنَّةِ» الدعاميص: دواب صغيرة تكون في الغدران، في غدران المياه وفي القدور، فشبّههم النبي ﷺ بالدعاميص، ولكنهم في الجنة، فقال: «صِغَارُهُمْ دَعَامِيص الْجَنَّةِ، يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ -أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ- فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ، كَمَا آخِذُ أَنَا بِثَوْبِكَ هَذَا، فَلَا يَنْتَهِي حَتَّى يُدْخَلَهُ اللَّهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ».

فهؤلاء الأبناء الذين فقدتهم في حياتكِ سيجعلهم الله -سبحانه وتعالى- سببًا لسعادتكِ، وفلاحكِ ونجاحكِ في الدار الآخرة، فإن الله تعالى لا يُضِيعُ أجر المحسنين الصابرين، وقد قال الرسول ﷺ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ، إِلَّا تَحِلَّتِ الْقَسَمَ» يعني: إلَّا الورود على الصراط؛ لأن الله تعالى أقسم بأنهم كلهم سيردونها.

وقال ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ (أي: لم يبلغوا سن البلوغ) إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، مِنْ أَيِّهَا شَاءَ دَخَلَ» [رواه ابن ماجه، وحسَّنه غير واحد من أهل العلم]، وقال ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، لأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ».

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًّا، والإنسان أحيانًا لا يبلغ منزلةً قدَّرها الله تعالى له بأعماله وحدها، فيُقدِّرُ الله تعالى عليهم من المصائب ما يُبَلِّغَه به تلك المنزلة، بسبب صبره على ما أصابه من المصيبة.

فتَذَكُرِكِ لهذه المعاني يُهوِّن عليكِ هذه المصيبة، بل ويجعلكِ تفرحين بقضاء الله تعالى وقدره، وقال ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْزِلَةُ، فَمَا يُبَلِّيهَا بِعَمَلٍ، فَمَا زَالُوا يُبَلِّيهِ بِمَا يَكْرَهُ، حَتَّى يَبْلُغَهَا إيَّاهَا». وقال ﷺ أيضًا: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ، فَلَمْ يُبْلِغْهَا بِعَمَلٍ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-».

وهكذا يطول بنا الحديث جدًّا لو ذهبنا نتتبع الأحاديث التي وردت، والنصوص القرآنية التي وردت في ثواب الصابرين، إذا قابلتِ ما أصابكِ بالصبر والاحتساب، وهذا قد وفقكِ الله له، فداومي عليه، وأكثري من شكر الله تعالى وحمده، وأكثري من ذكره، وجالِسِي الصالحات الطيبات، سيذهب عنكِ -بإذن الله تعالى- ما تجدينه من الحزن.

نسأل الله تعالى أن يَجْبُر خاطركِ، وأن يعوضكِ خيرًا مما فقدتِ، ويكتب أجركِ.

www.islamweb.net