مدرسة متدنية أخلاقياً ومدرسة ينتشر فيها الغش!!
2025-11-25 01:06:56 | إسلام ويب
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعمل معلمة في مدرسة بعيدة عن منزلي، عملتُ بها لمدة، كنتُ سعيدة نفسيًا بوجودي هناك وسط جو نفسي هادئ ويتسم بالاحترام من كل مَن هم أكبر مني سنًا -جزاهم الله خير الجزاء- ومن الطلاب أيضًا، فتقريبًا طوال سنة لم يُؤذِني أحد، ولكن طلبتُ النقل؛ بسبب بُعد المسافة والغش في الامتحانات؛ لأن المستوى التعليمي للأطفال بسيط؛ بسبب وجودهم في مكان ناءٍ وبعيد، حتى عن الدروس التعليمية، وربما بسبب عمل معظمهم بالزراعة مع والديهم -أعتقد-، وبالرغم من مدة وجودي القصيرة -حوالي سنة واحدة- إلا أن مستوياتهم بدأت بالتحسن -والحمد لله-.
وبالفعل تم نقلي لمدرسة قريبة، مستوى الأولاد فيها مقبول دراسيًا، وللأسف متدنٍّ جدًا أخلاقيًا! بدأتُ أتعب جسميًا ونفسيًا من وجودي هناك، مما أسمع من ألفاظ منهم، ومن التعامل السيئ، كرهتُ المكان، وبدأتُ أفكر في ترك الوظيفة، فلا أستطيع التحمل أكثر من ذلك.
أخاف أن أكون جاحِدةً لنعم ربي عندما كنتُ هناك وهنا الآن، فهل أرجع للمدرسة الأولى رغم أن المكان به فتن؟ وهل لن أجد طريقة لمنع الغش؟
هل محاولاتي لتعليمهم ستُجدي نفعًا ويحاولون الاعتماد على أنفسهم بدلًا من الغش، أم يُسوِّل لي الشيطان الرجوع ويُهوِّن الذنب عليّ؟ أخاف كثيرًا أن أعود لمكان به فتن وأتحمل ذنب غش الطلاب مقابل راحتي النفسية، ولكن يعلم ربي أني كنتُ أشرح داخل الفصول، وأحاول ألا أُقصِّر، وأفكر الآن أني لو عدتُ أن أعتمد طرق شرح تأسيسية، ثم أراجع نفسي مرة أخرى؛ لأني أخشى أن تكون هذه الطرق وساوس من الشيطان لأعود من أجل راحتي فقط، ومن ثم أتحمل هذا الذنب العظيم مقابل اختياراتي! هل أُخاطر بديني؟
ملحوظة: لا يوجد معلم آخر في نفس مادتي، ويعتبر نصاب الحصص لمعلم واحد فقط.
عذرًا للإطالة، ولكني أُرْهِقْتُ نفسيًا!
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ جيهان حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكركم لتواصلكم معنا وثقتكم بموقعنا، ونحييكِ على هذا الضمير اليقظ، والهمّ التربوي والإيماني الذي يدفعكِ للبحث عن الأفضل لدينكِ ومهنتكِ.
فهمنا من رسالتكِ -أختي الكريمة- أنكِ تواجهين تحديًا كبيرًا بين الراحة النفسية والبيئة المهنية الأخلاقية، وقد انتقلتِ من مدرسة بعيدة مريحة نفسيًا، ولكن تتسم بظاهرة الغش، إلى مدرسة قريبة بيئتها الأخلاقية متدنية، وتفكرين في العودة إلى المدرسة الأولى خشية أن تخسري راحة البال.
هذه المشاعر طبيعية جدًا، وتدل على أنكِ إنسانة حساسة وصاحبة رسالة، وهذا التضارب بين الراحة والمسؤولية هو ابتلاء يختبر إيمانكِ وعزيمتكِ، ولكن لا تخافي أبدًا أن تكوني جاحدة لنعم ربكِ، بل أنتِ تبحثين عن أفضل السبل لشكر هذه النعم.
لا بد أن نذكركِ أن العمل في بيئة صعبة أخلاقيًا يمكن أن يكون بابًا عظيمًا للأجر والثواب إذا احتسبتِ ذلك عند الله، إن هداية طالب واحد إلى الخلق القويم خير لكِ مما طلعت عليه الشمس، تذكري قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْرِ النَّعَمِ" (رواه البخاري ومسلم)، حالكِ الآن هو حالة صبر في ضراء، فاستثمري هذا التعب النفسي والجسدي في ميزان حسناتكِ، يقول الشاعر:
بَصُرتُ بالرّاحَةِ الكُبرَى فَلَمْ أَرَها ***تُنَالُ إلاَّ عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
الأمر الثاني: هل الرجوع هو الحل؟ (مقارنة المفاسد والمصالح)، نحن ندرك حجم التحدي الذي تواجهينه، وأنتِ الآن أمام موازنة دقيقة بين مفاسد محتملة:
1. مفسدة البقاء في المدرسة الحالية: التعب النفسي والجسدي الشديد من تدني الأخلاق، والذي قد يصل إلى المرض أو الانقطاع عن التعليم تمامًا، وحينها ستكون هذه مفسدة أكبر بـحرمان الطلاب من معلمة ذات ضمير.
2. مفسدة العودة للمدرسة الأولى: تحمل ذنب الغش، أو الإقرار به -إن لم تستطيعي منعه-، وهذه مفسدة دينية عظيمة تتعلق بسلامة الذمة.
القاعدة الشرعية: الإسلام يدعونا إلى دفع المفسدة الكبرى باحتمال المفسدة الصغرى، أو دفع الضرر الأكبر، إن الخوف من تحمل ذنب الغش هو خشية عظيمة من الله، وهو دليل على تقواكِ، ولكن، إذا كان البقاء في المدرسة الحالية سيؤدي إلى مرضكِ أو ترككِ للتعليم؛ فإن هذا يصبح مفسدة عظيمة (مفسدتان لا مفسدة واحدة)، يقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في قاعدة دفع أكبر المفسدتين بأخفهما: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، قُدّم أعظمها... ويُدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"، وفي حالتك، قد تكون مفسدة انقطاعك عن التعليم (وأنت ذات ضمير) أكبر من مفسدة الغش التي يمكن أن تحاربيها.
نصيحتنا هي: يجب عليكِ أولاً أن تستنفذي كافة المحاولات للتكيف والإصلاح في المدرسة الحالية لحفظ صحتكِ، ولكن، إذا ثبت لكِ طبياً أو نفسياً أن صحتكِ تتدهور، وأن العودة ضرورية لحفظ نفسكِ وقدرتكِ على الاستمرار في رسالتكِ التعليمية، فيجوز لكِ محاولة الرجوع للمدرسة الأولى شريطة أن تكون هذه العودة مشروطة بالآتي:
شرط العودة: أن تكون عودتكِ بنية وعزيمة صادقة على مكافحة ظاهرة الغش، واستخدام كل صلاحياتكِ الإدارية والتربوية لتقليل هذه المفسدة ومنعها قدر المستطاع، تذكري أن مكافحة المنكر هي غاية الداعية والمربي، وأن هداية طالب واحد إلى الخلق القويم أو النزاهة في الامتحان خير لكِ مما طلعت عليه الشمس، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْرِ النَّعَمِ" (رواه البخاري ومسلم).
الراحة النفسية الحقيقية هي في سلامة الذمة والرضا بما قسم الله، وتتحقق في المكان الذي تستطيعين فيه أن تخدمي دينكِ ورسالتكِ بأقل الأضرار الممكنة.
عليكِ بـمقاومة اليأس، وإعادة رسم الأهداف في المدرسة الجديدة التي أنتِ فيها الآن، فالتركيز على الجانب التربوي والأخلاقي هو أهم، ما يمكنكِ فعله الآن:
• الاستعانة بالصلاة والدعاء: أكثري من دعاء "اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"، واحرصي على صلاة الليل والدعاء فيها، يقول الله -عز وجل-: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ﴾ (النمل:62).
• الذكر والاستغفار: اجعلي لسانكِ رطبًا بذكر الله، ففيه السكينة.
• لا تجعلي تركيزكِ كله على الدرجات، بل على غرس القيمة قبل المعلومة، استخدمي قصصًا من السيرة النبوية والمواقف الإسلامية (مثل قصة الشاب الذي استأذن بالزنا، وكيف عالجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة).
• بعض الألفاظ والأخطاء البسيطة يمكنكِ التغافل عنها وكأنكِ لم تسمعيها، مع التركيز على تعزيز السلوك الإيجابي (اقتصدي في النقد، وأكثري من المدح الصادق للسلوك الحسن).
• تمسكي بأخلاقكِ العالية، وكوني نموذجًا للصبر والاحترام، فالقدوة أبلغ من مائة موعظة.
• ضعي حدودًا واضحة لتعاملكِ، فليست كل المعارك تستحق الخوض، افصلي بين بيئة المدرسة وحياتكِ الخاصة، فلا تحملي همّ العمل معكِ إلى المنزل.
• ممارسة الرياضة أو المشي في الطبيعة سوف يقلل كثيرًا من إرهاقكِ الجسدي والنفسي، ويساعدكِ على تجديد طاقتكِ.
• ناقشي وضع تدني الأخلاق مع الإدارة المدرسية بشكل مهني وبناء، وقدمي مقترحات عملية لتعزيز الانضباط (مثل تخصيص حصص للتربية الأخلاقية، أو برامج تحفيز).
نسأل الله أن ييسر أمركِ، وأن يشرح صدركِ، وأن يهديكِ سواء السبيل، وأن يجعل عملكِ في هذه البيئة الصعبة سببًا لرفع درجاتكِ في الدنيا والآخرة.