الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد حذرنا، ولا زلنا نحذر من الدخولِ على هذه المواقع المشبوهة ذات الأفكار المسمومة، التي تبثُ الشبهات وتثيرُ الشكوك، وبخاصة لمن قل نصيبه من العلم، واعلم هداك الله أنك ابتليت بما ابتليت به بسبب عدمِ مراعاتك لهذا الأمر، والعاقل الحازم حقاً هو الذي يبتعد عن أسباب الفتن ولا يفتحُ على نفسه بابها، قال بعض أهل العلم: من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولا لم ينجُ آخرا ولو كان جاهدًا.
ومن هاهنا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من سمع بالدجالِ في أرضٍ أن ينأى عنه، وهؤلاءِ دجاجلة هذا العصر، فيتعينُ النأيُ عنهم وإغلاقُ الأسماع والأبصار دون شبهاتهم.
والنصيحةُ العامة لك وللقراء الكرام هيَ: أن لا تترك الشبهة تمرُ على مسامعكم أو تقع في قلوبكم، وإن مرت، فلا تفكر فيها، ولا تلتفت إليها، ولا تشغل نفسك بالبحث عن جوابها، وقد أوصى شيخُ الإسلام ابن تيمية تلميذه ابن القيم بألا يجعلَ قلبه مثل الإسفنجة يتشرب كل شبهة، بل عليه أن يجعله مثل الزجاج تمرُ الشبهة فلا تؤثر فيه، وقد ذكر ابن القيم أنه لم ينتفع بوصية كما انتفع بهذه الوصية من شيخ الإسلام.
وقد بينا ضوابط مناقشة الملاحدة في الفتوى: 71907، واحذر كل الحذر من مصاحبة الملحدين وأهل الباطل والضلال، فإن مصاحبتهم وموادتهم مما لا يليقُ بأهل الدين والاستقامة، قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ {المجادلة: 22}. وانظر الفتوى: 68016.
والظاهرُ أنك -ولله الحمد- من أهل الخير والفضل، وأماراتُ ذلك باديةٌ في سؤالك، فأنت تكره هذه الوساوس وتسعى للتخلصِ منها، وقد وجد الصحابة -رضي الله عنهم- من الوساوس وخواطر السوء نظيرَ ما وجدته، فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم من حديثِ أبي هريرة رضيَ الله عنه.
فالواجبُ عليك ألا تلتفت إلى هذه الوساوس كي يُذهبها الله عنك، وطالما أنك تكرهها وتسعى في التخلص منها، فإنها لا تضرك، وعليكَ كلما عرض لك شيء منها أن تتعوذ بالله من الشيطان، فإنه جالبها يريدُ أن يفسد بها قلبك، وعليك أن تقول آمنتُ بالله.
ففي صحيح مسلم من حديثِ أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل: آمنت بالله.
وفي رواية: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله ثم ذكر بمثله. وزاد: ورسله.
وإذا عرضت لك شبهة في وجود الله فحسبكَ أن تنظرَ في أي جزءٍ من أجزاء هذا الكون، ففيه من عجيب الصنع وبديع الإتقان ما لا يشكُ معه عاقل في أن هذا صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهل يتصورُ عاقل إذا رأى مسماراً قد وضع في حائط أن هذا المسمار قد أتى بنفسه ووضع نفسه في الحائط، أم سيقطع ويجزم بأنه قد وضع بفعل فاعل، وسيقطع أيضاً بأنه وضع لحكمةٍ وغاية ، فإذا كان هذا لا يتصور في مسمارٍ صغير، فكيفَ يُتصور أن هذا الكون الهائل المبني على الحكمة البالغة الجاري على وفق المصلحة في نظامٍ لا يختلُ ولا يضطرب كيفَ يتصور أنه أوجد نفسه بلا موجدٍ حكيمٍ خبير؟!
وإذا عرضت لك شبهةٌ في القدر، فحسبك أن تقرأ إجمالاً: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء: 23).
ثم اعلم أن الله لم يظلم هذه المليارات حين يدخلهم النار، فهو تعالى قد أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأقام عليهم الحجج، وقطع معاذيرهم، ونصب الدلائل على صدق رسله، حتى صارت في متناول كل طالبٍ لها كالماء والهواء، وركب فيهم من الإرادة ما يختارون به الخير أو الشر، فإذا كفر الواحد منهم بعد هذا، فالله إنما يعذبه بذنبه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {يونس: 44}.
وهؤلاء الأطفال في الغرب الذين تأثروا بآبائهم لن يعذبهم الله إذا ماتوا أطفالًا، بل إنما يُعذبون إذا بلغوا وكانت لهم العقول التامة، ومع ذلك كذبوا بالحق وأعرضوا عنه لما بلغهم وسمعوه، وهم قد وُلدوا على الفطرة، فإذا نقضوا ميثاق الفطرة وجحدوا دلائل العقل وكذبوا الرسل وعادوْهم، أو أعرضوا عن النظر في دلائل صدقهم، فهم إنما يُعذَبون بذنوبهم وما كسبته أيديهم، قال تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ {الحج: 10}.
وبالجملة؛ فالله منزهٌ عن العبثِ والظلم، فاحمد الله أن هداك للإسلام ولم يجعلك من أهل الشقاوةِ، نسأل الله أن يهدينا وإياك سواء السبيل.
وإذا حصل عندك أي إشكال، فلا تتردد، ولا تتأخر في أن تبعث به إلينا، فإننا نرحب بذلك منكم ومن أمثالك.
والله أعلم.