السؤال
توفى أبي وفي ذمته دين، وترك أرضا زراعية لا نقدر على خدمتها نظراً لحجم المشروع الفلاحي المقام بها وقلة إمكانياتنا المادية، عزمنا على بيع الأرض لسداد دين ميتنا، فاقترح البعض أسعار بخسة لشراء الأرض, فهل يجوز لنا رفضها حتى يأتي المشتري الذي يقبل الشراء بالسعر المعمول به، علما بأن أرضنا الزراعية شبه مهملة نظراً لعدم تمكننا من القيام بها ،وأن هذا النوع من المبيعات يتطلب غالباً وقتا طويلاً، ولو قبلنا السعر البخس لتمكنا من سداد دين ميتنا، فأفتونا بارك الله فيكم ولا تنسونا من صالح دعائكم؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالواجب على الورثة المسارعة إلى قضاء ديون مورثهم مما ترك من المال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فإن كان الميت لم يترك مالاً من جنس ما استدانه فالأولى أن تطلبوا من أصحاب الديون أن تحيلوهم بهذا الدين من ذمة المتوفى إلى ذمتكم، وتطلبوا إمهالكم لفترة يمكنكم فيها بيع الأرض بسعر مثلها.
قال النووي في المجموع : يسارع إلى قضاء دينه -يعني الميت- والتوصل إلى إبرائه منه. هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب، وقال الشيخ أبو حامد: وإن كان للميت دراهم أو دنانير قضي الدين منها, وإن كان عقارا أو غيره مما يباع سأل غرماءه أن يحتالوا عليه ليصير الدين في ذمة وليه وتبرأ ذمة الميت. وقال الشافعي في الأم في آخر باب القول عند الدفن: إن كان الدين يستأخر سأل غرماءه أن يحللوه ويحتالوا به عليه، وإرضاؤهم منه بأي وجه كان, وفيه إشكال، لأن ظاهره أنه بمجرد تراضيهم على مصيره في ذمة الولي يبرأ الميت، ومعلوم أن الحوالة لا تصح إلا برضاء المحيل والمحتال, وإن كان ضمانا فكيف يبرأ المضمون عنه ثم يطالب الضامن..., وفي حديث أبي قتادة لما ضمن الدين عن الميت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الآن بردت جلدته. حين وفاه لا حين ضمنه, ويحتمل أن الشافعي والأصحاب رأوا هذه الحوالة جائزة مبرئة للميت في الحال للحاجة والمصلحة. والله أعلم. انتهى.
ففي هذه الحالة يلزم أصحاب الديون قبول الحوالة، مع أن الأصل في الحوالة أنه يشترط فيها قبول المحتال وهذا على سبيل الاستثناء للحاجة والمصلحة كما قرره النووي، واعتمد هذا غير واحد من متأخري الشافعية كما ذكر الهيتمي في الفتاوى الكبرى. وقال الهيتمي في تحفة المحتاج: (يبادر) بفتح الدال ندبا (بقضاء دين الميت) عقب موته إن أمكن، مسارعة لفك نفسه عن حبسها بدينها عن مقامها الكريم، فإن لم يكن بالتركة جنس الدين أي أو كان ولم يسهل القضاء منه فورا فيما يظهر، سأل ندبا الولي غرماءه أن يحتالوا به عليه، وحينئذ فتبرأ ذمته بمجرد رضاهم بمصيره في ذمة الولي، وإن لم يحللوه كما يصرح به كلام الشافعي والأصحاب بل صرح به كثير منهم وذلك للحاجة والمصلحة، وإن كان ذلك ليس على قاعدة الحوالة ولا الضمان قاله في المجموع... قال الزركشي: ... وينبغي لمن فعل ذلك أن يسأل الدائن تحليل الميت تحليلا صحيحا ليبرأ بيقين، وليخرج من خلاف من زعم أن المشهور أن ذلك التحمل والضمان لا يصح، قال جمع: وصورة ما قاله الشافعي والأصحاب من الحوالة أن يقول للدائن: أسقط حقك عنه أو أبرئه وعلي عوضه، فإذا فعل ذلك برئ الميت ولزم الملتزم ما التزمه لأنه استدعاء مال لغرض صحيح. اهـ.. وقولهم أن يقول إلى آخره مجرد تصوير لما مر عن المجموع أن مجرد تراضيهما بمصير الدين في ذمة الولي يبرئ الميت فيلزمه وفاؤه من ماله وإن تلفت التركة. انتهى.
نسأل الله تعالى أن ييسر لكم أمركم وأن يرحم أباكم ويدخله جنات النعيم.
والله أعلم.