السؤال
نؤمن جميعا بقضاء الله وقدره، وأن ما يقدره الله ويقضيه فهو فيه الصالح لنا حتى وإن لم يكن ظاهره كذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. صدق الله العظيم
ومع ذلك فإننا نشعر بضيق نفسي إذا ما حرمنا الله ما نحب أو نطلب، فما هو السبيل للتخلص من هذا الشعور بالضيق؟
على سبيل المثال مسألة شخصية تبدو بسيطة، ولكن أشعر أنها ستؤثر على حياتي المستقبلة.
رأيت في عائلة أنها ذات دين، وأن ابنتهم ستكون زوجة صالحة لي، وسيعيونني على ديني ودنياي، ولكن تمت خطبة هذه الفتاه لغيري، ومع أنني أؤمن بأن الله سيرزقني الزوجة الصالحة فمازلت متأثرا نفسيا من ضياع هذه الفتاة مني، على أني لن أجد مثلها وأريد أن أتخلص من هذا الشعور بالضيق مما حدث؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فعليك أخي الكريم أن تحمد الله على ما قدر لك، فأنت لا تعلم هل النعمة عليك في زواجك من تلك الفتاة، أم في صرفها عنك، ولقد ذكرت بنفسك في السؤال قوله تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {البقرة: 216}.
فكم من الأمور التي يحزن الإنسان على فواتها فيتبين له مستقبلا أن في فواتها خيرا له، وكم من الأمور التي يحرص الإنسان على تحصيلها، فيترتب على حصوله عليها من المفاسد الشيء الكثير فيتمنى لو لم تحدث له، وهذا أمر مشاهد ويقع لكثير من الناس.
وأمر المؤمن دائما بين الصبر والشكر، فعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. رواه مسلم.
وذكر ابن القيم رحمه الله أن من الأمور المعينة للمؤمن على الرضا بقضاء الله والتلذذ به: أن يعلم أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء، وابتلاءه إياه عافية، قال سفيان الثورى: منعه عطاء وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن فمنعه اختيارا وحسن نظر. وهذا كما قال فإنه سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له، ساءه ذلك القضاء أو سره، فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء، وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كانت في صورة محنة. وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية، ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائما لطبعه ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة والبلاء رحمة، وهذه كانت حال السلف فالعاقل الراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه، كما قال بعض العارفين: يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب، وقد قال تعالى : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وقد قال بعض العارفين: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك، فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك، فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين فتسقط من عينه. انتهى من مدارج السالكين.
وسنذكر لك حديثا إذا تأملته جيدا سيذهب عنك ما أنت فيه، ويقوي ثقتك في قضاء الله لك، ويعطيك الأمل بأن ما يختاره الله للعبد هو خير مما يختاره العبد لنفسه، وأن المؤمن لا ييأس فقضاء الله كله حسن وخير، وأن المؤمن إذا بذل الأسباب المشروعة وامتثل أمر الله وسلم لقضائه، وهو على يقين وثقة بأن الله سيخلفه خيرا؛ لا شك بأن عاقبته قد تكون أفضل مما كان يتوقعه بكثير، وهذا الحديث ترويه أم سلمة رضي الله عنها، فقد توفي زوجها أبوسلمة رضي الله عنه، وكانت تقدره وتحبه حبا عظيما حتى أنها لشدة محبتها له لم تكن ترى أحدا يصلح لها زوجا خيرا من أبي سلمة، مع كثرة الصحابة الفضلاء الأخيار وقتها، ولم يكن يخطر في بالها الزوج الذي ادخره الله لها، وإليك قصتها، قالت رضي الله عنها: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا. قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه مسلم.
فلما صبرت وتأدبت بأدب الشرع في مصيبتها، وكان لها يقين وحسن ظن بالله، أصبحت من أمهات المؤمنين، وكانت لا يخطر في بالها أن وفاة أبي سلمة سترفعها إلى درجة لم تكن تتوقعها، وهي زواجها من خير البشر أجمعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقل مثل ما قالت أم المؤمنين أم سلمة واصبر، ولعل الله ادخر لك زوجة لم تكن تحلم بمثلها، واطرح عنك التفكير في هذه الفتاة، وابحث عن ذات الدين والخلق، وأبشر فقضاء الله كله خير.
والله أعلم.