الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يعافيك من تلك الوساوس، وأن يريك الحق حقا ويرزقك اتباعه، وأن يريك الباطل باطلا ويرزقك اجتنابه.
واعلم أخي الحبيب أن إلقاء الشيطان للشبهات في قلب مريدي الاستقامة أمر عادي ومعروف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: وَكُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَوَجُّهًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ جَاءَ مِنْ الْوَسْوَاسِ أُمُورٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِمَنْزِلَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، كُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ يَسِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَادَ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: لَا نُوَسْوَسُ، فَقَالَ: صَدَقُوا، وَمَا يَصْنَعُ الشَّيْطَانُ بِالْبَيْتِ الْخَرَابِ؟!. .
وأما تفصيل الرد عن الشبهات المذكورة فنقول:
أما كون المسلمين صاروا متخلفين، فهذا بشؤم بعدهم عن تحكيم منهج الله في الحياة والذي يحث على الأخذ بأسباب الفلاح في الدنيا والآخرة وعلى الاجتماع وموالاة بعضنا بعضا؛ فإن المسلمين لما كانوا متمسكين بدينهم سادوا العالم، في الوقت الذي تخلف فيه النصارى وغيرهم وتأخروا، والتاريخ شاهد على ذلك.
وأما تقدم غيرهم الآن فهو بسبب أخذهم بأسباب التقدم المادي، وسنة الله لا تحابي أحدا، إلا أن ذلك لا يستلزم رضا الله عن هؤلاء الكفار. قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. {الأنعام:44}.
وأما كون عيسى عليه السلام لم يقل: أنا الله، فهذه هي الحقيقة، بل إن الأناجيل الموجودة بأيدي النصارى اليوم ليس فيها ما يدل على أن المسيح قد قال أنا الله، أو أمر الناس بعبادته، وإنما هذا من غلو النصارى فيه، ومن كلام كاتبي الأناجيل، وليس منقولا من نص المسيح عليه السلام، وإنما غاية ما ورد في الأناجيل كلمات محتملة كوصفه بأنه ابن الله، علما بأن مصطلح (ابن الله) و(أبناء الله) قد تكررت في كتبهم في حق أناس غير المسيح، ومع ذلك لم يقل النصارى بألوهيتهم، فضلا عن أن هذه الأناجيل كلها منقطعة الأسانيد، فلا تعدو أن تناظر عندنا حديثا ضعيفا منقطعا، فانظر لنفسك إن جاءك حديث ضعيف يوهم ظاهره معنى شركيا، ويخالف ما علمته من الدين بالضرورة من توحيد الله عز وجل، هل كنت ترضى أن تبني عليه أيّ حكم شرعي ولو كان حكما فرعيا جزئيا؟ فكيف إذن بهدم ملة إبراهيم الحنيفية القيمة والخروج عن عقائد جميع الأنبياء والمرسلين، بما في ذلك عقيدة المسيح ونصوص الإنجيل الكثيرة الصريحة في توحيد الله بألوهيته؟! كيف بهدم كل هذا بمجرد كلام منقطع السند لم تثبت صحته، وظاهره ظني محتمل؟! إن ذلك لمن أبطل الباطل.
ولا شك أن الحواريين قد ماتوا جميعا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كانت لا تزال هناك قلة من النصارى على دين المسيح الحق، فمثلا في قصة إسلام سلمان الفارسي أنه قد التقى ببعض النصارى الذين كانوا على دين المسيح الصحيح، وانظر الفتوى: 59186. وانظر أيضا خبر بحيرا الراهب في الفتوى: 94665.
وعلى ذلك فليس بصواب أن تذهب إلى قس من أجل فهم الإنجيل؛ لأنه سيضلك ويلبس عليك، وهل ضلال عامة النصارى في فهم كتبهم إلا بسبب أمثال هؤلاء القساوسة. وانظر الفتوى: 126326، وما أحيل عليه فيها.
واعلم أخي الحبيب أن الوصول إلى الحق وتيقنه والتحرر من الوساوس لا يكون بالإصغاء إلى أهل الباطل وشبهاتهم، وإنما يكون بالالتجاء والتضرع إلى الله جل وعلا. وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. رواه مسلم.
وننصحك بقراءة كتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي. ففيه ما يروي الغليل عما يتعلق بالأناجيل وضعف نسبتها، وبيان مدى تناقضها، وأيضا بيان أنها تقرر عقيدة التوحيد لا التثليث.
وأما قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. {المدثر:5}. فلا يستلزم تلبسه عليه الصلاة والسلام بالمنهي عنه، وإنما المراد أمره بالمداومة على ذلك الهجر، أو المراد تقرير مبدأ عام للأمة، وإنما وجه الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام لأنه قدوة هذه الأمة وإمامها.
قال الفخر الرازي: احتج من جوز المعاصي على الأنبياء بهذه الآية. قال: لولا أنه كان مشتغلاً بها وإلا لما زجر عنها بقوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والجواب: المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما أن المسلم إذا قال: اهدنا، فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا، بل المراد: ثبتنا على هذه الهداية، فكذا ههنا. مفاتيح الغيب.
وقال الدكتور وهبة الزحيلي: والنهي عن جميع ذلك لا يعني تلبسه بشيء منها وإنما يبدأ به لكونه قدوة، وللمداومة على الهجران، فهو كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ .{الأحزاب 1} وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ. {الأعراف 142}. فمثل هذا الخطاب للنبي يراد به الأمر بالدوام والمتابعة، واستمرار تجنب الفساد. التفسير المنير.
وأما عذاب القبر ووقوعه على الروح وعلى الجسد حتى لو تحلل، فهو من أمور الغيب التي تحكمها نواميس وقوانين خاصة، فلا يصح عقلا ولا شرعا قياس حياة البرزخ على الحياة الدنيا، ولا إخضاعها لقوانين ونواميس الحياة الدنيا. وانظر الفتوى: 4314.
وعن ابن عباس قال: لما ماتت فاطمة أم علي خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه وألبسها إياه واضطجع في قبرها، فلما سوى عليها التراب قال بعضهم: يا رسول الله! رأيناك صنعت شيئا لم تصنعه بأحد؟ قال: إني ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت معها في قبرها لأخفف عنها من ضغطة القبر، إنها كانت أحسن خلق الله صنيعا إلي بعد أبي طالب. رواه أبو نعيم في المعرفة والديلمي، كما في كنز العمال وقال: سنده حسن.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
وهذا على اعتبار ثبوته، فهو من أمور الغيب التي نؤمن بها دون خوض في تفاصيلها؛ لأننا لا نعلم حقيقة عالم البرزخ، كما أننا لا ندري حقائق اليوم الآخر، وإن كنا نعلم أشياء مما شاء الله أن يطلعنا عليه.
أما كون إبليس من الملائكة فهذا مما اختلفت فيه أقوال العلماء. وانظر الفتاوى: 26059، 26445، 68139.
وفيما يتعلق بزواجه عليه الصلاة والسلام بعائشة راجع الفتوى: 108347، وما أحيل عليه فيها.
وأما الإعجاز العلمي فهو أحد وجوه الإعجاز الصحيحة، لكن يجب مراعاة الضوابط والقيود اللازمة عند تفسير نصوص الكتاب والسنة. وراجع بشأن ذلك الفتوى: 103103، وما أحيل عليه فيها.
وبخصوص مواقع الإعجاز العلمي راجع الفتوى: 18220، وراجع للفائدة الفتاوى: 63082، 43698، 56402.
والله أعلم.