الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالإنسان أسير فكره، فإذا شغل نفسه بالتفكر والتدبر في ما ينفعه، كان من فوائد ذلك الكف عما لا ينفعه، فأفضل سبيل لمثل حال السائل أن يتوجه بهمته إلى تعلم العلم النافع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يشغل نفسه بما فيهما من المعاني والخيرات.
فإذا عرض له إشكال ولم يجد له جوابا، فليكف عن التفكير فيه، وليكمل رحلته في الإقبال على ما سواه مما يتعلمه .. وهكذا يمكن أن نقسم المسائل التي ترد على ذهن السائل إلى نوعين، قسم يجد له جوابا، وهذا هو الذي ينفع. وقسم لا يجد له جوابا، وهذا وإن كان في معرفة جوابه نفع، فليس من الحكمة التعمق في البحث عنه، لأنه بتعذره يكون نتيجة من إضاعة الوقت وتبديد الجهد وتشتيت الفكر.
وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه باب: (ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه) ومما أسند تحته قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله". وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال. وقول عمر: نهينا عن التكلف.
قال ابن حجر: قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين، أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين. ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طردي مثلا، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: "هلك المتنطعون" أخرجه مسلم. فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها .. وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس .. والكثير منه لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به من غير بحث، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة اهـ.
وأما بخصوص السؤالين اللذين أوردهما السائل الكريم، فبالنسبة لمسألة اختلاف عدد الأذكار، فإن الحكمة العامة لتشريع الأمور التعبدية والتي منها أعداد الأذكار والركعات ونحو ذلك، هي استدعاء الامتثال، واختبار مدى الطاعة والعبودية، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 8650.
وقال الغزالي في (الإحياء): وظف الله تعالى على العباد أعمالا لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار. وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية ... وإذا اقتضت حكمة الله تعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع، فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد، كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس، وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق اهـ.
والمقصود أن هذه الأمور ونحوها لا يتأتي السؤال عنها بـ : لماذا ؟ وإلا فأيّاً كان العدد فالسؤال عنه قائم، حتى لو تساوت هذه الأعداد، فالسؤال عن حكمة التسوية متوجه أيضا.
وأما بالنسبة لما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا: إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت.
وما رواه ابن حبان من حديث أبي موسى مرفوعا: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول: من أضل اليوم مسلما ألبسته التاج. قال: فيخرج هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته. فيقول: أوشك أن يتزوج. و يجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عق والديه. فيقول: يوشك أن يبرهما. و يجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك. فيقول: أنت أنت. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل. فيقول: أنت أنت. ويلبسه التاج.
فهناك تعارض بين ظاهر الحديثين في ما يتعلق بموقف إبليس ممن يزين الطلاق من جنوده، والقاعدة عند تعارض الروايات أن يجمع بينها بنوع فهم، فإن تعذر ذلك صرنا إلى ترجيح إحداها؛ لأن الوحي لا يتعارض: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا {النساء: 82}.
ولم نجد من أهل العلم من تعرض للجمع بين ما تعارض من الروايتين السابقتين، والذي نراه هنا هو لزوم الترجيح بين الروايات. والذي ظهر لنا بعد مراجعة روايات الحديث، أن الرواية الصحيحة هي حديث أبي موسى، وأن حديث جابر مختصر، فقد وقع في صحيح مسلم رواية أخرى من طريق أبي سفيان الإسكاف أيضا عن جابر، ولفظها: إن عرش إبليس على البحر فيبعث سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة.
وكذا رواه مختصرا أبو الزبير المكي عن جابر، ولفظه: يبعث الشيطان سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة. أخرجه مسلم أيضا.
وكذا رواه جماعة من الثقات عن جابر مختصرا: منهم ماعز التميمي عند أحمد. ووهب بن منبه عند ابن حبان. وسليمان بن يسار عند الطبراني في الأوسط وفي مسند الشاميين. وهذه الرواية المختصرة لحديث جابر لا تتعارض مع رواية أبي موسى، وقد حكم الشيخ الألباني على رواية حديث جابر التي فيها جملة الطلاق بأنها مختصرة من حديث أبي موسى، ونبه على ما فيها من إشكال، فقال في (السلسلة الضعيفة) في تخريج إحدى روايات حديث أبي موسى: ولهذا المختصر شاهد أخصر منه من حديث جابر عند مسلم وغيره من رواية الأعمش عن أبي سفيان عنه، وكنت خرجته في "الصحيحة" أيضاً برقم (3261) ثم بدا لي فيه إشكال سببه - والله أعلم - الاختصار الذي وقع فيه من بعض الرواة، أو من عنعنة الأعمش، فإن فيه: "ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فَرَّقت بينه وبين امرأته؛ فيدنيه منه ويقول : نِعمَ أنت .. فظننت أنه سقط منه قول إبليس في الذي فرق: "أوشك أن يتزوج" كما سقط منه قصة الذي لم يزل به حتى قتل، وهو الذي قال له إبليس: نعم؛ أنت. وهذا ثابت فِي حَدِيثِ سفيان الصحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ.
ومعنى هذا أن الذي يسعى في التفريق بين الزوجين من جنود إبليس، لا يقال له: نعم أنت. وإنما يقال له: أوشك أن يتزوج.
والله أعلم.