الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فينبغي للمسلم أن لا يكثر الحلف بالله سبحانه وتعالى لأن ذلك يشعر بعدم تعظيمه لله، وفيه جرأة عليه، والله تعالى يقول: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ {البقرة: 224}.
ويقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ {المائدة: 89}.
وورد ذم كثرة الحلف في قول الله عز وجل: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ {القلم: 10-13}.
فجاء ذكر الحلاف مع هذه الصفات المذمومة، فدل ذلك على ذمه.
وإذا كنت حنثت في عدة أيمان ولا تدري كم هي فحاول أن تميز عددها ولو فيما يغلب على ظنك، ثم كفر عنها بما يغلب على الظن أنه احتياط في قدرها.
واعلم أن الأيمان المتكررة على شيء واحد تجب فيها كفارة واحدة عند الحنث فيها كما هو مبين في الفتوى رقم: 11229.
وأما الحلف على أشياء متعددة فتجب فيه الكفارة لكل يمين حصل فيها الحنث وقال بعض أهل العلم: إن من حنث في أيمان متعددة قبل التكفير عن شيء منها فإنما تلزمه كفارة واحدة خلافاً لما عليه الجمهور قال ابن قدامة في المغني: وإن حنث في الجميع قبل التكفير، فعليه في كل يمين كفارة، هذا ظاهر كلام الخرقي، ورواه المروذي عن أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال أبو بكر: تجزئه كفارة واحدة ورواها ابن منصور عن أحمد، قال القاضي: وهي الصحيحة.
وقال أبو بكر: ما نقله المروذي عن أحمد قول لأبي عبد الله، ومذهبه أن كفارة واحدة تجزئه، وهو قول إسحاق، لأنها كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس، وإن اختلفت محالها، بأن يسرق من جماعة، أو يزني بنساء. اهـ.
وفي مطالب أولي النهى للرحيباني: ومن لزمته أيمان موجبها واحد ولو على أفعال نحو: والله لا دخلت دار فلان، والله لا أكلت كذا، والله لا لبست كذا وحنث في الكل قبل تكفير فكفارة واحدة نصا، لأنها كفارة من جنس فتداخلت كلها كالحدود من جنس وإن اختلفت محالها كما لو زنى بنساء، أو سرق من جماعة. اهـ.
واعلم أن اليمين على ثلاثة أقسام:
النوع الأول: يمين اللغو: وهي ما لم تنعقد عليها النية، أو بعبارة أخرى: هي التي يسبق اللسان إلى لفظها بلا قصد معناها، أو يريد اليمين على شيء فيسبق لسانه إلى غيره. مثالها: قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه، ويدخل فيها أيضا الحلف على شيء يعتقد أنه كما حلف، ثم يتبين له أن الأمر على خلافه، وهذه اليمين ليست عليها كفارة.
النوع الثاني: اليمين المنعقدة، أو المؤكدة وهي: الحلف على أمر في المستقبل أن يفعله، أو الحلف على أن لا يفعله ويقصد بحلفه التأكيد والتوثيق عليه، وهو المراد بقوله: عقدتم الأيمان أي نويتم عقدها بقلوبكم والعزم على الفعل، أو الترك، وهذه اليمين حكمها وجوب الكفارة عند الحنث.
وهناك يمين ثالثة، وهي: اليمين الغموس، وهي: الحلف كذبا على أمر ماض أو في الحال، نافيا لعدم وقوعه، أو مثبتا له، مثل قول الحالف: والله لقد ذهبت إلى عمرو وهو يعلم أنه لم يذهب إليه، أو قوله: والله ما حضر عمرو اليوم. وهو يعلم أنه حضر، فهذه اليمين يأثم صاحبها وسميت غموسا، لأنها تغمس صاحبها في النار، أو في الإثم، وهذه اليمين لا كفارة فيها على الراجح وهو مذهب الجمهور، وإنما تجب فيها التوبة النصوح قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه: كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس. أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح.
وذهب الشافعي إلى وجوب الكفارة وهو رواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم ومن احتاط وكفر فهو أحسن.
وإنما ذكرنا أنواع الأيمان ليعلم ما تجب الكفارة فيه وما لا تجب ولتراعى عند حساب عدد الأيمان التي وجبت فيها الكفارة.
وهذه الكفارة تكون بإطعام عشرة مساكين من غالب طعام البلد, أو كسوتهم بإعطاء كل واحد ثوبا يستره, أو عتق رقبة مؤمنة, وعند العجز عن كل الأنواع الثلاثة يصوم الشخص ثلاثة أيام، قال ابن قدامة في المغني: فإن لم يجد من هذه الثلاثة واحداً أجزأه صيام ثلاثة أيام متتابعة، يعني إن لم يجد إطعاماً ولا كسوة ولا عتقاً انتقل إلى صيام ثلاثة أيام لقول الله تعالى: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ـ وهذا لا خلاف فيه. انتهى.
ويمكن إطعام المسكين طعاما جاهزا بقدر ما يشبعه عند بعض أهل العلم ويمكن إعطاؤه أرزا، أو برا، أو غير ذلك من أوسط طعام أهل البلد وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا بد من جمع الغداء والعشاء معا ففي المدونة للإمام مالك بن أنس: قال: وسألنا مالكا عن الكفارة أغداء وعشاء أم غداء بلا عشاء وعشاء بلا غداء؟ قال: بل غداء وعشاء. انتهى.
وفي المصنف لابن أبى شيبة: عن قتادة يغديهم ويعشيهم،عن الشعبي قال: غداء وعشاء. اهـ.
وفي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي: وأما المقدار في طعام الإباحة فأكلتان مشبعتان غداء وعشاء، وهذا قول عامة العلماء.
وعن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وطاوس والشعبي أنه يطعمهم أكلة واحدة، وقال الحسن وجبة واحدة، والصحيح قول العامة، لأن الله عز وجل عرف هذا الإطعام بإطعام الأهل بقوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ {المائدة: 89}.
وذلك أكلتان مشبعتان غداء وعشاء كذا هذا. انتهى.
وأما دفع القيمة في الكفارة فمحل خلاف بين أهل العلم فمذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أن القيمة لا تجزئ في كفارة اليمين وأنه لا بد من الإطعام، أو الكسوة كما أمر الله تعالى وهذا المذهب هو الأحوط والأبرأ للذمة، ومذهب الحنفية فيه تفصيل في هذه المسألة راجعه في الفتوى رقم: 137617.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية جواز إخراج القيمة إذا ترتبت على ذلك مصلحة راجحة للفقير.
وراجع الفتويين رقم: 6372، ورقم: 10577.
وأما عن تقسيط الكفارة بأن تطعم كل شهر عشرة مساكين مثلا: فالظاهر أن هذا لا شيء فيه، قال ابن قدامة في المغني: وَمَنْ لَمْ يُصِبْ إلَّا مِسْكِينًا وَاحِدًا رَدَّدَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَتِمَّةَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُكَفِّرَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجِدَ الْمَسَاكِينَ بِكَمَالِ عَدَدِهِمْ، أو لا يَجِدَهُمْ، فَإِنْ وَجَدَهُمْ، لَمْ يُجْزِئُهُ إطْعَامُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ إلى أن قال: وَإِنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، حَتَّى أَكْمَلَ الْعَشَرَةَ، أَجْزَأَهُ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَقَدْ أَطْعَمَهُمْ. انتهى.
ثم إن الظاهر من حالك أنه لا يلزمك إلا الصيام، فإن لم يكن عندك إلا مصروفك اليومي فتغد به ولا تعطه للفقراء، فإن من لزمته الكفارة إذا أراد أن يكفر نظر في حاله، فإن كان قادرا على الإطعام، أو الكسوة، أو العتق كفر بواحد منها، وإلا كفر بالصيام، فإن كان عليه كفارات وأيسر قبل إتمامه الصيام عن بعضها كفر بالإطعام فيما أيسر فيه.
قال ابن قدامة في المغني: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدًا، أَجْزَأَهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ يَعْنِي إنْ لَمْ يَجِدْ إطْعَامًا، وَلَا كِسْوَةً، وَلَا عِتْقًا انْتَقَلَ إلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ـ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. انتهى.
وقد ذكر بعض الفقهاء أن من ملك ما يكفر به زائداً على قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته لم يجز له الانتقال إلى الصيام بدل الإطعام وما في حكمه، قال ابن قدامة في المغني: ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته مقدار ما يكفر به إلى أن قال: ويعتبر أن لا يجد فاضلاً عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، قدراً يكفر به، وهذا قول إسحاق ونحوه قال أبو عبيد وابن المنذر، وقال الشافعي: من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره أجزأه الصيام، لأنه فقير. انتهى.
وقال الباجي في المنتقى:وقوله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ {المائدة: 89}.
يريد من لم يجد شيئا مما ذكر فوق هذا فإنه ينتقل إلى الصيام ولا يجزئه الصوم مع وجود رقبة، أو كسوة أو إطعام، وقد روى ابن المواز عن مالك لا يصوم الحانث حتى لا يجد إلا قوته ويكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وروى ابن مزين عن ابن القاسم إن كان له فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع وهو في بلد لا يعطف فيه عليه ويعتبر في ذلك أن يجد فضلا عن قوت يومه الذي ذكر ما يعتق فيه رقبة كاملة، أو يكسو الكسوة التي تجزئه أقل ما يجزئ من إطعامهم فإن قصر ما عنده عن ذلك فليس بواجد ويجزئه الصيام.
مسألة: والاعتبار في ذلك بحال التكفير دون حال اليمين وحال الحنث وإن كان حين اليمين معسرا ثم أيسر قبل أن يشرع في التكفير لم يجزه الصيام لأنه الآن واجد للعتق، أو الإطعام فإن تلبس بالصوم ثم أيسر أجزأه أن يتمادى على صومه، لأنه قد تلبس بالصوم. اهـ.
والله أعلم.