السؤال
هل يجوز بيع الغرر في بعض الحالات، كما قال شيخ الإسلام؟ وما هي؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالمنع من بيع الغرر من حيث الجملة أصل من أصول فقه البيوع في الشريعة، فعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. رواه مسلم.
وعلة ذلك بيَّنها شيخ الإسلام ابن تيمية في القواعد النورانية فقال: في بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء, ومن نوع الغرر ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين, وهن بيع اللبن, وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها, وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك. انتهى.
وقال أيضا: النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء داخلة فيما حرمه الله في كتابه، فإن الله حرم في كتابه الربا والميسر, وحرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الغرر، فإنه من نوع الميسر. اهـ.
وقد قرر شيخ الإسلام صور بيع الغرر وبيَّن ما يستثنى منها فقال: أما الغرر فإنه ثلاثة أنواع: المعدوم, كحبل الحبلة واللبن.
والمعجوز عن تسليمه، كالآبق.
والمجهول المطلق، أو المعين المجهول جنسه، أو قدره، كقوله: بعتك عبدا, أو بعتك ما في بيتي, أو بعتك عبيدي.
أما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه، أو صفته, كقوله: بعتك الثوب الذي في كمي, أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك, ففيه خلاف مشهور يلتفت إلى مسألة بيع الأعيان الغائبة عن أحمد فيه ثلاث روايات، ومفسدة الغرر أقل من الربا, فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة, فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا, مثل: بيع العقار وإن لم تعلم دواخل الحيطان والأساس, ومثل بيع الحيوان الحامل، أو المرضع وإن لم يعلم مقدار الحمل واللبن, وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا, وكذلك اللبن عند الأكثرين, ومثل بيع الثمرة بعد بدو صلاحها, فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة, وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد, وإن كانت الأجزاء التي يكمل بها الصلاح لم تخلق بعد، وجوز صلى الله عليه وسلم لمن باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها, فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل, فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره, ولما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص, ولم يجوز الفاضل المتيقن, بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة. انتهى.
فشيخ الإسلام رحمه الله يستثني من صور الغرر ما كان يسيرا وتمس إليه الحاجة، وقد قرر ذلك في موضع آخر فقال: إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مطية العداوة والبغضاء وأكل المال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضها المصلحة الراجحة قدمت عليها، ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف منها من تباغض وأكل مال بالباطل، لأن الغرور فيها يسير والحاجة إليها ماسة, وهي تندفع بيسير الغرر, والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم, فكيف إذا كانت المفسدة منفية. انتهى.
وذكر ـ أيضاً ـ من صور ما يستثنى من بيع الغرر جواز بيع المغيبات في الأرض من الثمار المتلاحقة الظهور والمقاثي والمباطخ ونحو ذلك، قال شيخ الإسلام: أما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا, فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة، أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود, حيث يجوز بيع المقاثي جملة, وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل ونحو ذلك.
وأحمد قريب منه في ذلك, فإنه يجوز هذه الأشياء ويجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا وعبدا من عبيده ونحو ذلك. انتهى.
وذكر آخرون من أهل العلم غير شيخ الإسلام صوراً مستثناة من بيع الغرر، إما ليسره ومشقة التحرز منه، أو لكونه تبعا، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع فيدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران:
أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعا، فلو أفرد لم يصح بيعه.
والثاني: ما يتسامح بمثله إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه وتعيينه.
فمن الأول بيع أساس الدار والدابة التي في ضرعها اللبن والحامل، ومن الثاني الجبة المحشوة والشرب من السقاء، قال: وما اختلف العلماء فيه مبنى على اختلافهم في كونه حقيرا، أو يشق تمييزه، أو تعيينه، فيكون الغرر فيه كالمعدوم فيصح البيع وبالعكس. انتهى.
وراجع لتمام الفائدة الفتويين رقم: 122852، ورقم: 23724.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني