السؤال
سؤال يحير الكثير من المسلمين، وأنا لا أعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك هذا، كيف يمكن للمسلم أن لا يغسل عورته بعد خروج ما يسمونه الريح، وهو ليس بريح بل غازات وبخار نتن، ويكتفي بما يسمى الوضوء لكي يصلي، أنا لم ولن أفعل هذا أبداً، وكثير كثير مثلي، هناك أشياء كثيرة قيلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس كل ما يقال صحيح، الأئمة والكتاب عن الدين فرقوا الأمة، والدليل أنه لم تكن هذه المذاهب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما زعمك أن فقهاء الأمة فرقوا الناس فكلام باطل منكر، واستدلالك على ذلك بأن هذه المذاهب لم تكن موجودة زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشد نكارة، وهو دليل على قلة اطلاعك ومعرفتك بهذا الشأن، فإن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ورثوا هذا العلم الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنهم ورثه التابعون لهم بإحسان حتى انتهت مقادة العلم إلى ثلة من أكابر العلماء نقحوا هذا العلم ورتبوه وبذلوا أعمارهم في خدمته وبيانه للناس فجزاهم الله خيراً، وقد كانوا فيما بينهم إخوة متحابين يستفيد بعضهم من بعض، ويثني بعضهم على بعض، وقد وجدت بينهم اختلافات في بعض مسائل الاجتهاد كما وجد شيء كثير من ذلك بين الصحابة رضي الله عنهم، ومنشأ هذا الخلاف عن اجتهاد وتحر للحق فعذر بعضهم بعضا ولم ينكر أحدهم على أخيه اجتهاده ولم يفسد هذا الخلاف اليسير ما بينهم من الود، وكان ذلك الخلاف سعة لمن بعدهم من العوام ومن لا يحسنون النظر في الأدلة أن يقلد الواحد منهم من يثق به من هؤلاء الأكابر ويكون بذلك قد أبرأ ذمته وأدى ما عليه.
وإليك هذا الكلام النفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ليتبين لك أن الفقهاء لم يفرقوا الأمة، وأن من رحمة الله بالأمة أن قيض لها أمثال هؤلاء العلماء الذين نشروا العلم ونصروا الدين من الصحابة الأخيار فمن بعدهم من التابعين والأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة وأكابر أصحابهم، يقول رحمه الله: ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة. انتهى.
فحذار حذار من إساءة الظن بعلماء الأمة، وأما قولك إنه ليس كل ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيحا، فكلام صحيح فإنه قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث ضعيفة وموضوعة مكذوبة، وقد قيض الله لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم جماعة من أكابر العلماء بينوا صحيحها من سقيمها ومقبولها من مردودها ونفوا عنها الباطل وما لا يثبت فجزاهم الله خيراً، وإليهم المرد في هذا الباب فهم أهل هذا الشأن فما حكموا بصحته قبلناه وما حكموا برده رددناه.
وأما المسألة التي صدرت بها واستشكلتها وهي الحكم بطهارة الريح فهذا قول عامة العلماء، وليست هذه المسألة مما انتشر فيه الخلاف وتفرقت بسببه الأمة على حد زعمك، بل كلمة العلماء كالمتفقة على هذا، والحكم بالطهارة أو النجاسة مرده إلى الشرع وليس ذلك إلى أهواء الناس وما تقتضيه عقولهم.
قال النووي رحمه الله: وأجمع العلماء على أنه لا يجب الاستنجاء من الريح والنوم ولمس النساء والذكر. انتهى.
وفي المغني: وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء. ولا نعلم في هذا خلافا. قال أبو عبد الله: ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله إنما عليه الوضوء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من استنجى من ريح فليس منا. رواه الطبراني في معجمه الصغير، وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ. إذا قمتم ولم يأمر بغيره فدل على أنه لا يجب ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بالاستنجاء ههنا نص ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة ههنا. انتهى.
وبما مر يتضح لك أن الريح طاهرة لا يجب منها الاستنجاء وهذا من رحمة الله بعباده وتخفيفه عنهم، وأما اعتراضك على أحكام الشرع بمجرد العقل فليس مما يليق بالمسلم، وقد قال تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرْجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا {النساء:65}، هدانا الله وإياك سواء السبيل.
والله أعلم.