السؤال
أريد أن يكون صدركم رحبا لسؤالي، وسؤالي هو: هل إذا طبق الإسلام في بلد ما يجوز تطبيق الأحكام الخلافية بنوعيها؟ فمثلا إذا كان هناك حكمان لشيء حرام وحلال، فهل لا تجوز معاقبة فاعل هذا الشيء نظرا لوجود خلاف في الحكم؟ وماذا تفعل الدولة في أحكام كثيرة يوجد فيها خلاف؟ وماذا ستطبق؟ وهل هو الرأي الأحوط؟ أم الرأي الآخر بالإجازة؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالمفترض فيمن وجهه الله عز وجل من الحكام للسعي لتطبيق شريعة الله أن يفعل هو أو نائبه ما فعله رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين أرسل إلى اليمن وهو الحكم بكتاب الله ثم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم باجتهاده، فالحاكم إذاً يجتهد في المسائل الاجتهادية فيحكم فيها بما أداه إليه اجتهاده ويرجح فيها المذهب الذي يراه راجحا، وما حكم به الحاكم من الأمور الخلافية المرفوعة إليه وجب تنفيذ حكمه ولا تجوز مخالفته والخروج عليه، أما في المسائل الخلافية التي لم ترفع إليه فلا حق لأحد في إلزام أحد بقول مجتهد فيها وإلغاء قول غيره.
ونحن ننقل لك من أجل الفائدة والتفصيل أكثر طرفا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث يقول مفرقا بين المسائل التي يرفع فيها الحاكم الخلاف وبين غيرها: فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان ـ ولو كان من الصحابة ـ أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله فيقول: ألزمته أن لا يفعل، ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي، بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله، والحاكم واحد من المسلمين، فإن كان عنده علم تكلم بما عنده، وإذا كان عند منازعه علم تكلم به فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله، وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله ـ أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه ـ ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم، وأما باليد والقهر فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه، وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر، وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله وألزم المحكوم عليه بما حكم به وليس له أن يقول: أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره. انتهى.
ويقول في موطن آخر: والأمة إذا تنازعت في معنى آية، أو حديث، أو حكم خبري، أو طلبي لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم, فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة، ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى: يتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ـ هو الحيض والأطهار ويكون هذا حكما يلزم جميع الناس, أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ـ هو الوطء والمباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، أو الأب والسيد، وهذا لا يقوله أحد. انتهى.
وعليه، فإن من أخذ بقول من الأقوال فيما يجوز له التقليد فيه منها فإنه لا يعاقب، وأما لا يجوز له التقليد فيه فيبين له الحق فإن ظهر عناده استحق العقاب، يقول ابن تيمية ـ رحمه الله: وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم، بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب. وأما من يقول: إن الذي قلته هو قولي، أو قول طائفة من العلماء المسلمين، وقد قلته اجتهادا، أو تقليدا فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها، أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق . انتهى.
والله أعلم.