الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالعادات التي تتكرر بتكرر الأيام والأعوام وغير ذلك من المواسم، داخلة في معنى العيد، وهذا مما تتمايز به الأمم، ولذا جاءت الشريعة بالزجر عن الاحتفال بكل أعياد الجاهلية بغض النظر عن أصلها، قال شيخ الإسلام: السنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية. اهـ.
وبهذا يعلم السائل الكريم أن هذا الاحتفال لا يجوز، حتى ولو كان دون نية التقرب والتعبد، فإنه لا يلزم من عدم دخول الشيء في مسمى البدعة أن فعله جائز، فهناك علل أخرى للتحريم، كالعمل بسنة الجاهلية والتشبه بغير المسلمين، وراجع لتفصيل ذلك الفتوى رقم: 130821
وبذلك يدرك السائل ما في النقطة الأولى والثالثة من الخلط، فلا يلزم للحكم بمنع الاحتفال بعيد غير شرعي أن تقام فيه صلاة خاصة، كما إن العادات وإن كان الأصل فيها الإباحة إلا أن ذلك يزول إذا اقترنت بمحظور شرعي كالتسنن بسنن أهل الجاهلية والتشبه بهم فيها ومتابعتهم عليها، وقد نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها عيد من أعياد الجاهلية؟. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
وفي هذا دلالة واضحة على لزوم تحري مخالفة سنة الجاهلية، لا سيما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه. رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام: فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث. اهـ.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على مخالفة عادات غير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم، حتى قال اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. رواه مسلم.
ولذلك نقول: إن تقليد غير المسلمين في عادة الاحتفال بيوم الأم لا يوافق المقاصد الشرعية، وليس هناك ما يدعو إليه، فهو من التقليد الأعمى على خلاف ما ذكره السائل في النقطة الرابعة، ولذلك قال الدكتور القرضاوي: عندما اخترع الغرب عيد الأم قلدناهم في ذلك تقليدًاً أعمى، ولم نفكر في الأسباب التي جعلت الغرب يبتكر عيد الأم، فالمفكرون الأوربيون وجدوا الأبناء ينسون أمهاتهم ولا يؤدون الرعاية الكاملة لهن فأرادوا أن يجعلوا يوماً في السنة ليذكروا الأبناء بأمهاتهم. اهـ.
ومما يؤكد ذلك ما جاء في هذه النقطة من الاستدلال بأخذ المسلمين صوم عاشوراء من اليهود، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منهم.
فإن قائل ذلك لو تأمل السنة والهدي النبوي في صوم عاشوراء لأيقن أن مخالفة هؤلاء من معالم هذا الدين حتى إن ما عندهم من الحق لا نتبعهم فيه إلا مع مخالفتهم في الطريقة، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع. رواه مسلم.
ففي هذا الحديث إشارة إلى السبب في صوم التاسع وهو كما قال النووي: أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر. اهـ.
ويجدر التنبيه هنا على أن عاشوراء كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه في مكة قبل الهجرة، ففي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
قال ابن رجب في لطائف المعارف: كان للنبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء أربع حالات:
الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم ـ وذكر حديث عائشة.
الحالة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم.
الحالة الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه، وقد سبق حديث عائشة في ذلك.
الحالة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه. اهـ.
فهذا هو الذي استقر عليه الحال وانتهت إليه السنة: التأكيد على مخالفة طريقة أهل الكتاب حتى في ما عندهم من الحق، فنؤديه بطريقة تخالف طريقتهم، وبهذا يتضح الجواب على التساؤل الوارد في السؤال: فلماذا لا نقول نحن: نحن أحق بتكريم الأم منهم ـ فبالفعل نحن أحق بكل فضيلة منهم، ولكن بطريقتنا نحن المسلمين، والتي تقوم على القيام بحق الوالدين كما أمر الله، فليس هناك من تكريم فوق هذا، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * {الإسراء:23ـ 24}.
وعن جاهمة السلمي أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها. رواه النسائي وابن ماجه وصححه الألباني.
فهل يُبقِي امتثال مثل هذه النصوص الكريمة من تكريم الأم شيئا؟.
وأما النقطة الخامسة، فمن المعروف بالفعل أن الاحتفال بهذا اليوم يختلف تاريخه وطريقته من دولة إلى أخرى ومن أمة إلى أمة، ونحن لا نتكلم عن الاحتفال في هذا التاريخ على وجه الخصوص، بل نتكلم عن أصل الفكرة وأصل الاحتفال بغض النظر عن ما يصطلح عليه الناس في اختيار يوم الاحتفال.
وهنا لا بد من لفت النظر إلى أن الاحتفال بيوم الأم على وجه الخصوص قد صار له في السنين المتأخرة ضجة إعلامية ضخمة، ومراسم احتفالية فخمة، حتى إن كثيرا من البلاد يكون عندهم في هذا اليوم عطلة رسمية، فهل بعد ذلك من شك في كون هذا اليوم قد صار عيدا؟ وأين هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام؟. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ـ وأبو داود والنسائي وأحمد، وصححه الألباني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا. متفق عليه.
وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر. رواه أبو داود والنسائي وأحمد، وصححه الألباني.
فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه يشرع للمسلمين أعياد غير هذه الأيام لفتح لأصحابه هذا الباب.
والله أعلم.