السؤال
قلتم في موقع الاستشارات أن من يرتكب المعاصي لا يستطيع أن يحفظ: البعد عن المعاصي والذنوب، فإنها تحرم الإنسان من التوفيق والنجاح، حيث يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي **** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور **** ونور الله لا يهدى لعاصي.
وكذلك قلتم: البعد عن المعاصي والذنوب، فإنها تحرم الإنسان من التوفيق والنجاح، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أي إنسان يعلم أن تخصص الطب قائم على قوة الحفظ، إذن لماذا أفضل الأطباء في العالم هم من الكفار؟ وكبار العلماء في العلوم من الكفار؟ و بالتالي فهم يحفظون ولهم قدرة كبيرة على ذلك رغم أنهم يرتكبون أكبر المعاصي، كذلك نجحوا وأصبحوا أطباء رغم المعاصي، بل حتى الأطباء المسلمون تجد منهم تاركي الصلاة ومرتكبي المعاصي وهم في النهاية أطباء لهم القدرة على الحفظ رغم المعاصي، فماهو ردكم حول هذه الشبهة؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن للمعاصي تأثيرا عظيما في إظلام القلب وإطفاء نور العقل، يعرف هذا كل أحد من نفسه، ولو لم يكن للمعاصي من أثر في حرمان التوفيق إلا ما تؤدي إليه من الاسترسال فيها وجر بعضها إلى بعض وأخذ بعضها برقاب بعض حتى لا يهتدي العبد سبيلا إلى الطاعة لكفى به دليلا على عظيم أثرها في ذلك، كما قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم { الصف:5}. وقال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة {الأنعام:110}.
وأما ما ذكرته من قوة حفظ بعض الكفار وسعة علومهم فهي علوم كلها لا تنفعهم في الآخرة، قال تعالى في وصفهم: ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
قال جار الله في تفسيرها: ذمّهم الله عزّ وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا، بله في أمر الدين، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجارات ومكاسب، وعن الحسن بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بإصبعه، فيعلم أرديء هو أم جيد، وقوله: يَعْلَمُونَ ـ بدل من قوله لا يَعْلَمُونَ وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا وقوله: ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ـ يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة: يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة. انتهى.
فبان لك بذلك أن علمهم وحفظهم ما لم يكن نافعا لهم دالا على الله تعالى معرفا به فهو كلا علم، وأي فائدة في علم لا ينتفع به صاحبه، وحاصل هذا الجواب أن المعاصي تحول بين العبد وبين التوفيق فلا يعلم ما ينفعه ولا يعان على حفظ ما فيه نفعه، وجواب ثان هو أن الله تعالى إنما يعطي العصاة ويمكنهم من كثير من مآربهم لعظيم سخطه عليهم وما يريده بهم من النقمة، فهو يستدرجهم بذلك ليأخذهم بغتة وهم لا يشعرون، كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ.
ولعل فيما ذكرناه إزالة لهذه الشبهة عنك.
والله أعلم.