الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنيئا لك بتوبتك مما ذكرت، ونسأل الله تعالى أن يتم عليك نعمته وهدايته، وأن يفيض عليك من فضله ورحمته، واعلمي أن من تاب من جميع الشركيات لا يلزمه التجديد للتوبة كلما ذكر شيئا من سوابقه فقد ذكر أهل العلم أن التوبه من جميع الذنوب على سبيل الإجمال كافية، كما قال محمد مولود في مطهرة القلوب في شروط التوبة:
وشرطها استحلاله للآدمي من حقه الظاهر غير الحرمى
ونحوه إن تستطع تحلله منه ولا بد من أن تفصله له
وتكفي في ذنوب مجمله ومنكر عجز أن يعود له.
واعلمي أن الحكم بالكفر ليس بالأمر الهين حتى يُطلق فيه القول بهذه السهولة، سواء على النفس أو الغير، وقد تقرر في الشريعة أن من ثبت إسلامه بيقين فلا يزول إسلامه بالشك، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فلا يكفر المسلم إلا إذا أتى بقول أو بفعل أو اعتقاد دل الكتاب والسنة على كونه كفراً أكبر مخرجاً من ملة الإسلام، أو أجمع العلماء على أنه كفر أكبر ومع ذلك فلا يحكم بكفر المعين إلا إذا توفرت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه، ومن ذلك أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً غير معذور بجهل أو تأويل فيما يكون فيه الجهل والتأويل عذراً، وقد سبق لنا بيان ذلك وبينا ضوابط التكفير وخطر الكلام فيه وأنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، وذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 721، 53835، 8106، 119321.
هذا وننصحك بالبعد عن الوسوسة والإعراض عنها بالكلية، فالوسوسة هي أعظم المخاطر التي يصطاد بها الشيطان من أراد التوبة فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره لا بد له من ذلك فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وكلما أراد العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه، ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس فقال: صدقوا وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب. اهـ.
وعلى هذا، فاحرصي على تعلم العلم الشرعي وادرسي العقيدة الصحيحة وابحثي عن صحبة صالحة تتعاونين معهن على الخير وكثري من الطاعات ومن ذكر الله تعالى ومن الاستغفار كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يستغفر الله في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، وكثري من الدعاء الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده: للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم. وصححه الألباني.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم, فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه, ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنا من العلم, فإنه عاص بترك العلم والعمل، فالمعصية في حقه أشد, وفي صحيح ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم, وأستغفرك لما لا أعلم ـ فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب ولا يعلمه العبد، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في صلاته: اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني, اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي, اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني, أنت إلهي لا إله إلا أنت ـ وفي الحديث الآخر: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله خطأه وعمده سره وعلانيته أوله وآخره ـ فهذا التعميم وهذا الشمول لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه وما لم يعلمه. اهـ.
فاطرحي عنك الوساوس ولا تجعلي للشيطان عليك سبيلا، فإن الوسوسة مرض شديد وداء عضال والاسترسال معها يوقع المرء في الحيرة والشك المرضي، والضيق والحرج الشرعي، وراجعي في ذلك الفتاوى: 132817، 135606، 70476.
فإذا تقرر هذا وجعلت وصيتنا هذه نصب عينيك، فلا بأس أن نجيبك عن كيفية توبة المرتد فنقول: نص أهل العلم على أن توبة المرتد تكون بإسلامه، فإذا نطق بالشهادتين فقد دخل في الإسلام، إلا أن تكون ردته بسبب جحد فرض ونحوه فإن توبته حينئذ تكون بالنطق بالشهادتين مع إقراره بالمجحود به، قال في زاد المستقنع: وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن كفر بجحد فرض ونحوه فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به، أو قول: أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام. انتهى.
وأما الاغتسال: فليس شرطا في صحة التوبة من الكفر بلا شك، ولهذا نص العلماء على أنه لا يجوز له تأخير الإسلام حتى يغتسل، قال النووي ـ رحمه الله: إذا أراد الكافر الإسلام فليبادر به ولا يؤخره للاغتسال، بل تجب المبادرة بالإسلام، ويحرم تحريما شديدا تأخيره للاغتسال وغيره، وكذا إذا استشار مسلما في ذلك حرم على المستشار تحريما غليظا أن يقول له أخره إلى الاغتسال، بل يلزمه أن يحثه على المبادرة بالإسلام، هذا هو الحق والصواب، وبه قال الجمهور. انتهى.
وقد اختلف في وجوب الاغتسال ورجح النووي عدم وجوبه، كما بينا في الفتوى: 147945.
والله أعلم.