السؤال
إن مما يدمي قلبي ويقطعه إرباً إرباً ما أود أن أفصح لكم عما يكنه قلبي المجروح، لذا سأحدثم بما يرتضيه لسان حالي وكلي يقين بأنكم ثقاة بأن قلبي قد عشعش فيه خطرات الغل والحسد غصبا عني، فبيني وبين نفسي تأتيني خطرات الغل والحسد ـ أقسم بالله أنني لست راضٍ عنهاـ فحتى مع أعز أصدقائي تنتابني هذه الخطرات في بعض الأحيان ـ أحس بأنها خارجة عن إرادتي ـ مع أنني لست عنها راضٍ وأخرى أيضاً مع شخص قد أخطأ في حقي كثيراً، ولا زال وفي كل مرة أسامحه لكن سئم قلبي من ذلك، وقد تبدل الآن إلى غل وحقد شديدن عليه، فهل أحاسب على هذا، فإنني أخشى أن يمحق عملي من جراء الغل والحسد؟ وما السبيل للتخلص منهما؟ وما السبيل للارتقاء بالقلب نحو العلا وجعله كاللؤلؤ المكنون؟ وبارك الله فيكم وجزاكم عنا كل خير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما دمت لا تسعى في أذية من تحسدهم أو تحقد عليهم فنرجو ألا يكون عليك إثم فيما تجده في نفسك من ذلك، ولكن ينبغي أن تجتهد في إزالة هذا الذي تجده من الغل والحسد خشية أن يتحول إلى إرادة البغي على المحسود فتأثم بذلك، ورغبة في تطهير القلب وتنقيته، وقد بين ابن رجب ـ رحمه الله ـ أنواع الحسد وما يوجب الإثم منها فقال ما مختصره: فقوله صلى الله عليه وسلم: لا تحاسدوا ـ يعني: لا يحسُدْ بعضُكم بعضاً، والحسدُ مركوزٌ في طباع البشر، وهو أنَّ الإنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ منْ جنسهِ في شيءٍ من الفضائل، ثم ينقسم الناس بعدَ هذا إلى أقسام، فمنهم من يسعى في زوال نعمةِ المحسودِ بالبغي عليه بالقول والفعل، ثمَّ منهم من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه، ومنهم من يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثهما، وهذا هو الحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه، وهو كان ذنبَ إبليس حيث حسدَ آدم ـ عليه السلام ـ وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضع من كتابه، وروى أحمد والترمذي من حديث الزبير ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دبَّ إليكم داءُ الأمم من قبلكم: الحسدُ والبغضاءُ، والبغضاءُ هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقةُ الشعر ـ وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إيَّاكم والحسد، فإنَّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحطب، أو قال: العُشبَ ـ وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ وقد رُوي عن الحسن أنَّه لا يأثمُ بذلك، وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين: أحدهما: أنْ لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه، فيكون مغلوباً على ذَلِكَ، فلا يأثمُ به، والثاني: من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختياراً، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحاً إلى تمنِّي زوالِ نعمة أخيه، فهذا شبيه بالعزم المصمِّم على المعصية، وفي العقاب على هذا اختلاف بين العلماء، لكن يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود، ولو بالقول، فيأثم بذلك. انتهى محل الغرض من كلام ابن رجب رحمه الله.
وبه يتبين لك ما ذكرناه من أنك لا تأثم ـ إن شاء الله ـ على ما تجده في نفسك ما لم يصحبه بغي على المحسود، ومما يعينك على هذا استحضار حقارة الدنيا وهوانها على الله تعالى، وأنها لا تستأهل من العباد أن يننافسوا عليها أو يتحاسدوا فيها، ومن فوائد ابن القيم: الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها.
ومما يعينك على ذلك أيضا استحضار أسماء الرب وصفاته، وأن العطاء منه سبحانه، وأنه يعطي كل أحد ما يليق به، والاجتهاد في دعاء الرب تعالى بإصلاح القلب فإنه سبحانه مقلب القلوب، نسأل الله لنا ولك صلاح القلب.
والله أعلم.