السؤال
يقول بعض الناس إن إثبات علو الله وفوقيته لا تلزم تحديد الجهة ولا كونه فوقنا نحن، بل المراد أنه فوق العالم كله من جميع جهاته وهو محيط به إحاطة السوار بالمعصم وأن اسم الباطن يعني أن ربنا سبحانه كما هو فوقنا فهو تحتنا وهذا باعتبار كروية الأرض والسماوت وبدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء ـ وقد فسر أهل العلم بأن معنى الظاهر هو العلو والارتفاع والفوقية، ومن باب المقابلة يكون معنى الباطن هو الفوقية لمن هو تحتنا لمن في الجهة المقابلة من الأرض فالكون كروي والله محيط بالكون وأن كونه تحتنا لا يعني أنه ليس فوقنا، بل من لازم كونه تحتنا أن يكون فوقنا لماذا؟ لأننا كلما نزلنا تحت سنقترب من مركز الأرض وهو أسفل سافلين ثم إذا تجاوزنا مركز الأرض وسرنا بالاتجاه المعاكس والمقابل لنا ستتقلص عنا السفلية حتى يكون موازياً بالمجال والمدار حينما يكون على ظهر الأرض وكلما صعد من الجهة المقابلة يكون في الحقيقة فوقنا بالمجال والمدار هذا وإن كان تحتنا من حيث الجهة، الرجاء بيان وجه الحق فيما ذكر وجزاكم الله خيراً.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن كان مراد هذا المتكلم دفع الشبهة التي يوردها الجهمية على مسألة الاستواء وحاصلها أنه كيف يكون الرب تعالى فوقنا والأرض كروية كما هو معلوم، فإن هذه الشبهة الداحضة قد فندها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في مواضع، ونحن ننقل من كلامه ما يناسب المقام، قال رحمه الله: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْكُرَةِ وَهَذَا قَبْضُهُ لَهَا وَرَمْيُهُ بِهَا وَإِنَّمَا بَيَّنَ لَنَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَصْفَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مَا يُعْقَلُ نَظِيرُهُ مِنَّا، ثُمَّ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا وَفَعَلَ بِهَا مَا ذَكَرَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهَا وَيَدْحُوَهَا كَالْكُرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِحَاطَةِ بِهَا مَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُبَايِنٌ لَهَا لَيْسَ بمحايث لَهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا ـ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ـ إذَا كَانَ عِنْدَهُ خَرْدَلَةٌ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا فَأَحَاطَتْ بِهَا قَبْضَتُهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْهَا بَلْ جَعَلَهَا تَحْتَهُ فَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا وَسَوَاءٌ قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَإِحَاطَةِ الْكُرَةِ بِمَا فِيهَا أَوْ قِيلَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا، كَوَجْهِ الْأَرْضِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوْفِهَا وَكَالْقُبَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَهُ وَالْعَبْدُ فِي تَوَجُّهِهِ إلَى اللَّهِ يَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ وَتَمَامُ هَذَا بأَنْ نَقُولَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرَوِيًّا كَالْأَفْلَاكِ وَيَكُونُ مُحِيطًا بِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وَلَيْسَ هُوَ كُرَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَأَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ وَهِيَ الْمُحَدَّبُ وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هُوَ الْمَرْكَزُ وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إلَّا جِهَتَانِ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجِهَاتُ السِّتُّ فَهِيَ لِلْحَيَوَانِ فَإِنَّ لَهُ سِتَّ جَوَانِبَ يَؤُمُّ جِهَةً فَتَكُونُ أَمَامَهُ وَيُخْلِفُ أُخْرَى فَتَكُونُ خَلْفَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي يَمِينَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي شِمَالَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي رَأْسَهُ، وَجِهَةٌ تُحَاذِي رِجْلَيْهِ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ السِّتِّ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ، بَلْ هِيَ بِحَسَبِ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فَيَكُونُ يَمِينُ هَذَا مَا يَكُونُ شِمَالُ هَذَا وَيَكُونُ أَمَامَ هَذَا مَا يَكُونُ خَلْفَ هَذَا وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَا يَكُونُ تَحْتَ هَذَا، لَكِنَّ جِهَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِلْأَفْلَاكِ لَا تَتَغَيَّرُ فَالْمُحِيطُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالْمَرْكَزُ هُوَ السفل... وكل أحد فهو على ظهر الأرض وليس مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ وَلَا الْقُطْبُ الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس.. مَنْ يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَثْقَالِ لَا يُقَالُ إنَّهُ تَحْتَ أُولَئِكَ وَإِنَّمَا هَذَا خَيَالٌ يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ تَحْتَ إضَافِيٍّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ نَمْلَةٌ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ فَالسَّقْفُ فَوْقَهَا وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهَا تُحَاذِيه، وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِّقَ مَنْكُوسًا فَإِنَّهُ تَحْتَ السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ تَلِي السَّمَاءَ وَكَذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْأَرْضِ أَوْ الْفَلَكِ أَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ تَحْتَهُ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ، وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ الْعَالِي عَلَى الْمَرْكَزِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ... وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا وَسَقْفَهَا ـ وَهُوَ فَوْقَهَا ـ مُطْلَقًا فَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إلَّا مِنْ الْعُلُوِّ لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إذَا كَانَ كُرَوِيًّا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ بِالدَّاعِي وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا وَرَدَ لِتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ نِصْفَ الْفَلَكِ يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَتَحْتَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ كَانَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةٍ لَكَانَ تَحْتَهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا وَهَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، إذْ الْفَلَكُ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا.. انتهى محل الغرض من كلام الشيخ بتصرف.
وإن شئت البحث بتمامه فانظره في الجزء السادس من مجموع الفتاوى ص 545 وما بعدها.
وشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يرجح أن العرش ليس مستديرا مطلقا، بل يرجح أنه مقبب، قال ـ رحمه الله ـ ما عبارته: وَأَمَّا الْعَرْشُ: فَإِنَّهُ مُقَبَّبٌ، لِمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا ـ وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مُطْلَقًا، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ فَقَالَ: لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ ـ وَفِي: عُلُوِّهِ ـ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ـ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ـ الْآيَةَ. انتهى.
فهذا عن تحرير القول في دفع هذه الشبهة إن كان دفعها هو مراد هذا المتكلم، وأما العبارات الواردة في السؤال ففيها نكارة ظاهرة كالقول بأن إحاطة الله بالكون كإحاطة السوار بالمعصم جل الله عن أن يشبه بشيء من خلقه، فإن علو الله على جميع خلقه واستواءه على عرشه ثابت كتابا وسنة وإجماعا من السلف ـ رحمهم الله ـ ولكن من الثابت أيضا بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يعلم كيفية هذه الصفة وغيرها من الصفات إلا الله تعالى، فمن تعرض للخوض في كيفية الصفة فقد أتى بدعة في الدين كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في السؤال عن الاستواء: والسؤال عنه بدعة.
فالواجب علينا أن نؤمن بما وصف الله به نفسه من غير تكييف ولا تمثيل، بل نعتقد أن كل ما دار بخلد إنسان في كيفية صفة الرب تعالى فالله تعالى منزه عنه، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى، وكذا لا يعلم كيف صفاته إلا هو سبحانه، فمن خاض في كيفية صفات الرب فقد تعاطى ما لا علم له به وما لا سبيل إلى العلم به وقال على الله بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف:33}.
فلنقف حيث وقف السلف ـ رحمهم الله ـ الذين هم أعلم بالله تعالى منا مثبتين لله ما أثبته لنفسه نافين عنه ما نفاه عن نفسه منزهين له عن مماثلة المخلوقين عالمين أنه لا سبيل إلى معرفة كيفية صفاته تعالى، قال العلامة الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله: فَلَوْ قَالَ مُتَنَطِّعٌ: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا، قُلْنَا: أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: لَا، فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ، كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا{20 110} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ {112 1 - 4} فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [16 74] فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا، أَوْ نَفْيًا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ، فَهُوَ عَامِّيٌّ: وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ ... عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ ـ وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ: سَبْعُ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعُ أَرْضِينَ، فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ـ وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. انتهى.
فالزم هذه الجادة تنج وتفلح، ثم إن فهمه لاسم الله الباطن بأنه تحت المخلوقات ـ والعياذ بالله ـ فهم منكر، والعلماء الذين فسروا اسمه الظاهر بما دل عليه الحديث من فوقيته على جميع خلقه فسروا اسمه الباطن كذلك بما دل عليه الحديث من أنه ليس دونه شيء سبحانه وبحمده، ومعناه أنه مع علوه على خلقه فلا يحجبه عنهم شيء، بل هو بعلمه وإحاطته وقدرته أقرب إلى كل واحد منهم حتى من نفسه تبارك وتعالى، قال ابن القيم ـ رحمه الله: وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه، وبطونه سبحانه إِحاطته بكل شيء ـ بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون، فمدار هذه الأَسماءِ الأَربعة على الإحاطة وهي إحاطتان زمانية ومكانية فأحاطت أَوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إِلى أَوليته وكل آخر انتهى إِلى آخريته فأَحاطت أَوليته وآخريته بالأَوائل والأَواخر، وأَحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إِلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأَول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه، فسبق كل شيء بأَوليته وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا، ولا يحجب عنه ظاهر باطن، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد، فهو الأَول في آخريته والآخر في أَوليته، والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره، لم يزل أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. انتهى.
فليتبصر اللبيب أين يضع قدمه في هذه المسائل العظيمة ولينته حيث انتهى السلف الكرام رحمهم الله ورضي عنهم.
والله أعلم.