السؤال
توفي والدي -رحمه الله تعالى- وقبل وفاته بمدة طويلة، وهو بصحته وكامل عافيته، وإرادته، وعقله. وهب، وأعطى والدتي لأنها محتاجة وفقيرة-أي بمسوغ- بيتا شعبيا، وعمارة في صك واحد، وساحة أمام العمارة، ولها صك، وقبضتها والدتي في حياة والدي -رحمه الله- وهي بدون أوراق رسمية، وهي هبة بمجرد الكلام.
ثم إن والدي رحمه الله متزوج قبل والدتي، فوهب زوجته الأولى أربعة بيوت شعبية، وعمارتين، وقبضتها في حياته، وقد توفيت قبل والدي.
وسؤالي هنا أن إخوتي من الزوجة الأولى لم يرضوا بهذه الهبة والعطية، مع أنهم كانوا راضين في حياة والدي.
فهل هبة الزوجات تقبل؟
وجزاك الله خير الجزاء.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فنقول ابتداء إن الهبة إذا تمت بشروطها المعتبرة، بأن تكون في حياة الواهب وحال صحته، وقبضها الموهوب له بحيث صار يتصرف فيها تصرف المالك، فإن الهبة صحيحة ماضية، ولا يملك أحد ردها حتى الواهب نفسه.
فما وهبه والدكم لزوجتيه، واستجمع تلك الشروط، فإنها هبة ماضية، ولا يملك إخوتك ردها.
واعتراض أولاد إحدى الزوجتين لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون اعتراضهم قائما على أن الوالد لم يعدل بين زوجتيه في الهبة، وأنه أعطى إحداهما أكثر من الأخرى – مع إقرارهم بأن الهبة تمت – فلا عبرة باعتراضهم في هذه الحال؛ لأن الزوج لا يلزمه العدل بين زوجاته في العطية في قول أكثر أهل العلم.
جاء في الموسوعة الفقهية: إِذَا قَامَ الزَّوْجُ بِالْوَاجِبِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ، فَهَل يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفَضِّل إِحْدَاهُنَّ عَنِ الأْخْرَى فِي ذَلِكَ، أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُنَّ فِي الْعَطَاءِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ فِي أَصْل الْوَاجِبِ ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الأْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ أَقَامَ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ مَا يَجِبُ لَهَا، فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِمَا شَاءَ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الرَّجُل لَهُ امْرَأَتَانِ قَال: لَهُ أَنْ يُفَضِّل إِحْدَاهُمَا عَلَى الأْخْرَى فِي النَّفَقَةِ، وَالشَّهَوَاتِ، وَالْكِسْوَةِ إِذَا كَانَتِ الأْخْرَى كِفَايَةً، وَيَشْتَرِيَ لِهَذِهِ أَرْفَعَ مِنْ ثَوْبِ هَذِهِ وَتَكُونُ تِلْكَ فِي كِفَايَةٍ، وَهَذَا لأِنَّ التَّسْوِيَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ تَشُقُّ، فَلَوْ وَجَبَ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ بِهِ إِلاَّ بِحَرَجٍ، فَسَقَطَ وُجُوبُهُ، كَالتَّسْوِيَةِ فِي الْوَطْءِ, لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الأْوْلَى أَنْ يُسَوِّيَ الرَّجُل بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَّل بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ, وَقَال ابْنُ نَافِعٍ: يَجِبُ أَنْ يَعْدِل الزَّوْجُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِيمَا يُعْطِي مِنْ مَالِهِ بَعْدَ إِقَامَتِهِ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا يَجِبُ لَهَا, وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُقَدَّرُ بِحَسَبِ حَال الزَّوْجِ، أَمَّا عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُقَدَّرُ بِحَسَبِ حَالِهِمَا فَلاَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ، فَلاَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي النَّفَقَةِ لأِنَّ إِحْدَاهُمَا قَدْ تَكُونُ غَنِيَّةً وَأُخْرَى فَقِيرَةً. اهـ.
الحالة الثانية: أن يكون اعتراضهم قائما على أن دعوى الهبة ليست صحيحة في الأصل، وأنهم يشككون في أصل الهبة كما يفهم من قولك: " وهي بدون أوراق رسمية، وهي هبة بمجرد الكلام " وفي هذه الحال تطالب الزوجة التي تدعي الهبة – أو ورثتها من بعدها - بإقامة البينة للورثة على تلك الدعوى، فإن أقامت بينة فذاك، وإلا توجه اليمين إلى من أنكرها من الورثة – بأمر القاضي – فيحلفون على نفي العلم بأن والدهم وهبها ما تدعيه, لأن من حلف على فعل غيره في النفي حلف على نفي العلم.
جاء في الموسوعة الفقهية: يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ فِي فِعْلِهِ، وَكَذَا فِعْل غَيْرِهِ إِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا فَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ. وجملة الأمر: أنّ الأيمان كلّها على البتّ والقطع إلاّ على نفي فعل الغير، فإنّها على نفي العلم, وعلى هذا أبو حنيفة، ومالك، والشّافعيّ. اهـ.
وجاء في فتاوى ابن حجر الهيتمي الشافعي: وَالْمُعْتَبَرُ أَنْ يُقَالَ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ فِي كُلِّ عَيْنٍ إلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَارِثِ فِيمَا يَنْفِيهِ. اهـ.
فإن حلفوا رُد ما تدعيه إلى التركة وقُسم بين كل الورثة، وإن نكلوا عن اليمين أخذت ما تدعيه من الهبة.
وينبغي عند الاختلاف رفع الأمر إلى المحكمة الشرعية فهي أقدر على تقصي المسألة وسماع كل الأطراف, وانظر الفتوى رقم: 77493 عن طرق إثبات الهبة.
والله أعلم.