السؤال
قال لي شخص: إن بعض الصحابة كذبوا أبا هريرة, أو لم يعتمدوا على رواياته, واستند لهذه الروايات: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، واللفظ لأبي كريب، قالا: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي رزين، قال: خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده على جبهته، فقال: ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتهتدوا وأضل، ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشِ في الأخرى حتى يصلحها» رواه مسلم, والروايات التي فيها: "أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" خطابًا لأبي هريرة, فأعينوني في الرد عليه - جزاكم الله خيرًا -.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أجاب عن ذلك الدكتور مصطفى السباعي في كتابه السنة ومكانتها فقال: من المعلوم أن أبا هريرة كان من المكثرين في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم تأخر إسلامه؛ لكثرة ملازمته للرسول حتى كان يدور معه حيثما دار، فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل كبار الصحابة عن حديث الرسول، كما كان يفعل صغار الصحابة، كعبد الله بن عباس, وعبد الله بن عمر, وأنس, وغيرهم، وبذلك وبحرصه على استيعاب كل أخبار رسول الله كان من أشد الناس حفظًا للحديث واحتفاء به, فلما كان عهد الخلفاء الراشدين وتفرق الصحابة في الأمصار، رأى من واجب الأمانة عليه أن يبلغ ما حفظه عن النبي إلى أمته، وخاف عاقبة الكتمان إن هو امتنع عن التحديث، بهذا صرح أبو هريرة نفسه؛ إذ يقول في حديث أخرجه البخاري ومسلم: «لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثًا، ثم تلا: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}» كان من الطبيعي أن يثير تدفق أبي هريرة في الحديث عن رسول الله هذا التدفق العجيب - مع ما علم من تأخر إسلامه - الغرابة في نفوس بعض التابعين, أو من كان بعيدًا عن محيط المدينة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يقولوا: ما بال أبي هريرة يكثر الحديث، وأصحاب رسول الله لا يكثرون مثله؟ سؤال يرد على أذهانهم فيوجهونه إلى أبي هريرة، لا شكًا ولا تكذيبًا، ولكن رغبة في إزالة هذا العجب من نفوسهم، فيكشف لهم أبو هريرة عن السبب، وهم ما حدثناك به، فإذا هم ساكتون راضون مطمئنون، إن كل ما في الحديث سؤال يدل على الاستغراب من كثرة حديثه، ومتى كان الاستغراب تكذيبًا؟ قد يحدثك صديقك الذي لا تشك في صدقه، بحديث فيه شيء من الغرابة، فتظهر له العجب والدهشة لا مكذبًا, ولا مستنكرًا، بل طالبًا منه أن يزيل عجبك, ويكشف لك عن سر حديثه، وهذا ما حدث مع أبي هريرة، بدليل أنهم تلقوا منه بالرضى والقبول تلك المقالة التي بين فيها سر إكثاره من الحديث دون سائر صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أفرأيت لو أنهم كانوا مكذبين له، أو شاكين في صدقه أو حفظه، أكان يكفي لحملهم على تصديقه أن يقول لهم: إني سمعت ما لم تسمعوا, وحفظت ونسيتم! ثم أرأيت لو أنهم كانوا يشكون في حديثه، أكانوا يسمحون له بالاستمرار في التحديث عن هادي الأمة ومشرعها الأعظم؟ أم كان يكف عنه أمير المؤمنين عمر، وهو من هو في شدة بأسه وصلابته في الحق .. أم كان يسكت عنه كبار الصحابة وجمهورهم وقد كانت وفاته في عهد غير متأخر لا يزال فيه كثير من الصحابة على قيد الحياة؟ وهم الذين بلغ من حرصهم على الشريعة أن كانوا يردون على من أخطأ في الحديث, ولو كان عمر أمير المؤمنين، أو عائشة زوج الرسول، فكيف يسكتون على من يزيد في الحديث ويكذب. اهـ.
وللشيخ عبد المنعم العلي كتاب مفيد في الدفاع عن أبي هريرة، عقد فيه فصلًا لتوثيق النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده لأبي هريرة، ثم أجاب عما نسب إليه من الكذب!! فراجعه لتمام الفائدة.
وقد بيَّن أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ سبب قوة حفظه وإكثاره من الحديث فقال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد؛ إني كنت امرأً مسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وقال: من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي, ثم يقبضه فلن ينسى شيئًا سمعه مني. فبسطت بردة كانت عليَّ، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئًا سمعته منه. رواه البخاري ومسلم.
وراجع للفائدة الفتوى رقم: 163029.
والله أعلم.