السؤال
ما حكم استخدام علامات الترقيم في كتابة المصحف - جزاكم الله الجنة -؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة من المسائل المعاصرة، وهي تشبه إلى حد ما مسألة النقط والتشكيل والتعشير وأسماء السور ونحو ذلك مما ألحقه التابعون، وقد تباينت أنظار أهل العلم في هذه المسألة المسؤول عنها بين مبيح وحاظر، ولا غرابة في ذلك؛ فقد اختلفوا في ما هو أشد منه، وهو: مسألة كتابة المصحف كله على مقتضى قواعد الإملاء الحديثة، وقد أعد مجلس هيئة كبار العلماء بحثًا مفصلًا عن هذه المسألة، جاء في آخره: خلاصة القول أن لكل من قال بجواز كتابة المصحف على مقتضى قواعد الإملاء, والمنع من ذلك, وحرمته وجهة نظر, غير أن مبررات الجواز فيها مآخذ ومناقشات تقدم بيانها, وقد لا تنهض معها لدعم القول بالجواز, ومع ذلك قد عارضها ما تقدم ذكره من الموانع, وجريًا على القاعدة المعروفة من تقديم الحظر على الإباحة, وترجيح جانب درء المفاسد على جلب المصالح عند التعادل أو رجحان جانب المفسدة، قد يقال: إن البقاء على ما كان عليه المصحف من الرسم العثماني أولى وأحوط على الأقل, وعلى كل حال فالمسألة محل نظر واجتهاد، والخير في اتباع ما كان عليه الصحابة وأئمة السلف - رضي الله عنهم -. اهـ. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 146011.
وممن أجاز ذلك السيد محمد رشيد رضا، وقد عمل به بالفعل، فطبع تفسيره - تفسير المنار - بالرسم العثماني, وزاد عليه علامات الترقيم الحديثة، وقد سئل عن ذلك ـ كما في فتاوى المنار ـ فكان مما قال: يرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار على التزام رسم المصحف الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع علامات الترقيم العصرية، ثم رسم الآيات في أثناء تفسيرها بالرسم العرفي الذي يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها. اهـ.
وقد عقد الشيخ محمد طاهر الكردي في كتاب تاريخ القرآن الكريم فصلًا في اختراع النقط والشكل، ثم قال: والذي يغلب على ظننا ـ والله أعلم بغيبه ـ أنه كما أدخل النقط والشكل في المصاحف، سيأتي على الناس زمان يدخلون فيها علامات الترقيم، كعلامة الاستفهام, والتنصيص, والتأثر ... والحقيقة لا نرى بأسًا في إدخالها في المصاحف؛ لأنها من دواعي سرعة الفهم ومن محسنات الكتابة، لا دخل لها في جوهر الحروف والكلمات، ولا تغير اللفظ ولا المعنى، فيكون إدخالها في المصاحف كإدخال النقط والشكل, ووضع علامات التجويد فوق الكلمات, وعلامات الضبط فيها. اهـ.
وممن تحفظ على ذلك في كتابة المصحف: العلامة أحمد زكي باشا، وهو من أوائل من صنف في علامات الترقيم، فقال في نهاية مقدمة كتابه الترقيم وعلاماته في اللغة العربية: وعندي أنه لا موجب لاستعمال هذه العلامات في كتابة القرآن الكريم؛ لأن علماء القراءات - رحمهم الله - قد تكفلوا بالإشارة إلى ما فيه الغناء والكفاية فيما يختص به, وربما كان الأوفق عدم استعمالها أيضًا في كتابة الحديث الشريف؛ لأن تعليمه حاصل بطريق التلقين، وأما روايته فلا بد فيها من الدراية أيضًا. اهـ.
ومن أهل العلم من استحسن ذلك في كتابة ما يستشهد به من نصوص القرآن في الكتب والمحاضرات ونحو ذلك، قال الدكتور يوسف القرضاوي في إجابته على سؤال جاء فيه: في أثناء عملي في دراستي التفسيرية، رأيت أن من الأنسب أن أضيف بعض علامات الترقيم العصرية .. ؟
فأجاب: ... أما ما سألتم من استخدام علامات الترقيم، مثل: الفاصلة، والفاصلة المنقوطة، وعلامة الاستفهام، وعلامة التعجب، وعلامة الاعتراض، والنقطتين المتعادلتين، وغيرها، فإني لا أرى بها بأسًا، بل أستحسنها وأستحبها؛ لأنها تعين على فهم النص القرآني, وأنا شخصيًا ألتزم بهذا فيما أستشهد به من نصوص القرآن الكريم في كتبي ومحاضراتي، وكل ما أكتبه .. كل ما أتحفظ عليه من علامات الترقيم: علامة الاعتراض - الشرطتان الأفقيتان - خشية أن يظن القارئ أنها شيء خارج النص، ولا أحب أن تحدث هذه العلامات أي التباس, وأحب أن أذكر هنا: أن علماء العصر من قديم، أجازوا كتابة آيات القرآن بالرسم المعتاد وإن خالف الرسم العثماني، وذلك إذا استشهد المرء بها في كتاب أو مقالة أو نحوها، ولم يلزموا باتباع الرسم إلا في كتابة المصحف أو أجزاء كاملة منه. اهـ.
وممن ذهب إلى قريب من هذا: الدكتور ناصر الماجد ـ عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام ـ حيث قال: إن كان ذلك في كتابة المصحف جميعه فإن بعض أهل العلم يشدد في مثل هذا ويمنع منه، من باب حياطة القرآن الكريم ... أما إن كانت الكتابة لجزء من القرآن - كآية, ونحوها - في مقام التعليم والتدريس وما في هذا المعنى، فهذا أرجو ألا بأس به؛ لأنه من باب التوضيح وإفهام القارئ. اهـ.
وهذا التفصيل له حظ من النظر؛ لأن حقيقة علامات الترقيم تؤول إلى التفسير، وتنوب في بعض الأحيان عن نبرات الصوت المعبرة عن بعض المعاني - كالتعجب, والاستنكار, والاستفهام - وهذا وإن كان مقربًا للفهم، إلا إنه يحصر الآيات في معان أضيق من حقيقتها بكثير، والقرآن حمال أوجه وواسع الدلالة, ولفائدة راجع الفتوى رقم: 98916.
وعلى أية حال: فهذه المسألة جديرة بعقد المجامع الفقهية والندوات العلمية لمناقشتها من كافة الوجوه، والخروج باجتهاد جماعي يضبطها ويُحكِمها.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني