السؤال
سمعت عن حديث: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ـ فأرجو أن توضحوني بالمقصود من الحديث الشريف، وماذا يستفاد منه؟ لأنني ظننت من الوهلة الأولى أنه يجب أن نزهد في هذه الدنيا وألا نستمتع بها؟ فهل الزهد ينافي الطموح، أو ينافي الاستمتاع بطيبات الدنيا وما أحله الله لنا منها؟ وهل سليمان ـ عليه السلام ـ عندما طلب من الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده كان هذا ينافي الزهد؟ وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمعنى الحديث كما قال العلماء: لا تطلب من الدنيا إلا ما تحتاجه، واترك ما لا ينفع في الآخرة، وتورع عن ما قد يكون فيه ضرر في دينك، قال ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في شرح الأربعين النووية: فقال: ازهَد في الدُّنيَا.. والزهد في الدنيا الرغبة عنها، وأن لا يتناول الإنسان منها إلا ما ينفعه في الآخرة.. فالزاهد يتجنب ما لا نفع فيه.. وليس الزهد أنه لا يلبس الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة..
وقال ابن القيم في الفوائد: الزّهْد ترك مَا لا ينفع فِي الْآخِرَة، والورع ترك مَا يخْشَى ضَرَره فِي الْآخِرَة.
وقد يكون الإنسان زاهدا وهو يملك الأموال الطائلة، وكذلك العكس، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المستدرك على الفتاوى الكبرى: إذا سلم فيه القلب من الهلع، واليد من العدوان، كان صاحبه محمودا؛ وإن كان معه مال عظيم، بل قد يكون مع هذا زاهدا أزهد من فقير هلوع.
ولذلك، فالزهد بمعناه الشرعي لا يتنافى مع الطموح المشروع، وأخذ الحلال والطيبات من الرزق، فقد كان بعض الصحابة والسلف الصالح من أزهد الناس وهم في القمة ويملكون من الدنيا ما لا يملك غيرهم، ولكنها لم تكن في قلوبهم، وإنما في أيديهم, وللمزيد عن حـقيقة الـزهـد ومفهومه الصحيح انظر الفتوى رقم: 18551.
ومما يستفاد من الحديث: الحث على الزهد في الدنيا ومما في أيدي الناس، وأن الزهد في الدنيا من أسباب محبة الله لعبده ومحبة الناس، وأنه لا بأس بالسعي فيما يكتسب به الإنسان محبة العباد مما ليس محرما.
وأما دعوة سليمان ـ عليه السلام ـ أن يكون له ملك لا ينبغي لأحد من بعده: فلا تتنافى مع الزهد بالنسبة له، لأنه نبي من أنبياء الله المصطفين الأخيار، ولأنها ليست حبا للتكاثر من الدنيا والركون إليها.. وإنما أراد أن يكون ذلك النوع من الملك معجزة خاصة له، قال الطبري: أما رغبته إلى ربه فيما يرغب إليه من المُلك، فلم تكن ـ إن شاء الله ـ به رغبةً في الدنيا، ولكن إرادة منه أن يعلم منزلته من الله في إجابته فيما رغب إليه فيه، وقبوله توبته وإجابته دعاءه..
وقال الزمخشري في الكشاف: كان سليمان ـ عليه السلام ـ ناشئا في بيت الملك والنبوّة ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب ألِفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوّته قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ـ وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ـ وقيل: ملكا لا أسلبه ولا يقوم غيري فيه مقامي.
وقال البيضاوي: ليكون معجزة لي مناسبة لحالي..
ولهذا لم يكن دعاء سليمان يتنافى مع الزهد في الدنيا، لأنه لم يكن حبا لذات الدنيا أو الركون إليها..
والله أعلم.