السؤال
أنا طالب علم وكنت أبحث في الحدود وخاصة في مسألة المستأجرة للزنا، فوجدت قولا لأبي حنيفة أنه لا حد عليها ولا على الزاني، وقرأت هذه الرواية وما رواه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن الوليد بن عبد الله عن أبي الطفيل: أن امرأة أصابها جوع فأتت راعيا فسألته الطعام فأبى عليها حتى تعطيه نفسها، قالت: فحثى لي ثلاث حثيات من تمر، وذكرت أنها كانت جهدت من الجوع فأخبرت عمر فكبر وقال: مهر، مهر، مهر، كل حفنة مهر، ودرأ عنها الحد ـ وسؤالي: ما مدى صحة هذا الكلام أفادكم الله؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإمام أبا حنيفة يفرق بين حكم المستأجرة للزنا وبين الزنا بالمستأجرة لغيره، كالمستأجرة للطبخ أو الخبز، فيرى الإمام أن وطء المستأجرة لغير الزنا فيه الحد، بخلاف وطء المستأجرة للزنا، فيرى أنه لا حد عليه، نظرا لوجود شبهة المهر، والحدود تدرأ بالشبهات، أما أبو يوسف ومحمد ـ صاحبا أبي حنيفة ـ فقد ذهبا كما ذهب جماهير العلماء إلى وجب الحد في كلتا الحالتين، جاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق من كتب الحنفية: لا يجب الحد بالزنا بامرأة استأجرها ـ ومعناه استأجرها ليزني بها ـ أما لو استأجرها للخدمة فزنى بها يجب عليه الحد، وهذا عند أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: يجب عليه الحد في الأول أيضا، لأنه ليس بينهما ملك ولا شبهته، فكان زنا محضا فيحد، وهذا لأن الاستئجار ليس بطريق لاستباحة الأبضاع شرعا، فكان لغوا، كما لو استأجرها للطبخ أو للخبز ثم زنى بها، لأن محل الإجارة المنافع لا الأعيان، والمستوفى بالوطء في حكم العين، لما عرف في موضعه، والعقد لا ينعقد في غير محله أصلا، ولهذا لا يثبت بهذا الوطء النسب والعدة، ولو كان سببه الانعقاد لثبتا.
وفي مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج من كتب الشافعية: ويحد في وطء مستأجرة للزنا بها، لانتفاء الملك والعقد، وعقد الإجارة باطل، ولا يورث شبهة مؤثرة، كما لو اشترى خمرا فشربها, وعن أبي حنيفة أنه لا حد، لأن الإجارة شبهة, وعورض بأنها لو كانت شبهة لثبت النسب, ولا يثبت اتفاقا، فإن قيل: لم لم يراع خلافه هنا كما مر في نكاح بلا ولي؟ أجيب بضعف مدركه هنا.
وفي المغني لابن قدامة الحنبلي: ولنا عموم الآية والأخبار, ووجود المعنى المقتضي لوجوب الحد، وقولهم: إن ملكه منفعتها شبهة، ليس بصحيح, فإنه إذا لم يسقط عنه الحد ببذلها نفسها له, ومطاوعتها إياه, فلأن لا يسقط بملكه نفع محل آخر أولى وما وجب الحد عليه بوطء مملوكته, وإنما وجب بوطء أجنبية, فتغير حالها لا يسقطه, كما لو ماتت.
هذا، ويجدر بالذكر أن الجميع متفقون على تحريم الفعل، وإنما الخلاف فقط في درء الحد لشبهة المهر، وانظر الفتويين رقم: 115218، ورقم: 67924.
وأما أثر عمر ـ رضي الله عنه: ففيه الوليد بن عبد الله بن جميع، وقد تباينت آراء المحدثين فيه، ففي ميزان الاعتدال للذهبي: وثقه ابن معين والعجلي، وقال أحمد وأبو زرعة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم، صالح الحديث، وقال ابن حبان: فحش تفرده فبطل الاحتجاج به، وقال الحاكم: لو لم يذكره مسلم في صحيحه لكان أولى.
وفي ضعفاء العقيلي: الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري في حديثه اضطراب.
وعلى فرض ثبوته، فيحتمل أنه درأ عنها الحد لضرورتها إلى الطعام، كما جاء في حديث آخر في مصنف عبد الرزاق أيضا قال: أخبرنا ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، أن عمر بن الخطاب، أتي بامرأة لقيها راع بفلاة من الأرض وهي عطشى، فاستسقته، فأبى أن يسقيها إلا أن تتركه فيقع بها، فناشدته بالله فأبى، فلما بلغت جهدها أمكنته، فدرأ عنها عمر الحد بالضرورة.
وعلى ذلك، فهو شبيه بإسقاط حد السرقة في عام الرمادة، كما أنه ليس فيه تعرض لسقوط الحد عن الزاني، ويقول ابن حزم في المحلى: وأما الحنفيون المقلدون لأبي حنيفة في هذا، فمن عجائب الدنيا التي لا يكاد يوجد لها نظير: أن يقلدوا عمر في إسقاط الحد هاهنا بأن ثلاث حثيات من تمر مهر, وقد خالفوا هذه القضية بعينها فلم يجيزوا في النكاح الصحيح مثل هذا وأضعافه مهرا , بل منعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك.
والله أعلم.