السؤال
رجل يعطي أمه مبلغا شهريا، وكانت تصرف بعضه وتدخر البعض الآخر، وبعد سنين أخبرته أن معها مبلغا من المال ستعطيه إياه وأن هذا المال يخصه وحده، جمعته من المبالغ التي كان يعطيها إياها، وأنها ليست بحاجة إليه، فرفض أخذ المبلغ ولكنها غضبت منه وحلفت عليه أن يأخذ هذا المال، مع العلم أن لديه إخوة، لكن هذا المال كان من نفقته هو على والدته، لأنه الوحيد الذي ينفق عليها، ولما رأى إصرارها وغضبها منه على عدم قبول أخذ المال أقنعها بأنه إذا قدر الله عليها الوفاة قبله، فإن إخوته يعرفون أن هذا المال من نفقته على والدته وأنهم لم ينفقوا عليها شيئا، ولن يحصل خلاف معهم ـ إن شاء الله ـ فما الحكم الشرعي فيما فعلت الأم؟ وهل يقبل الولد هذا المال من أمه أم لا؟ وهل إذا قدر الله على أمه الوفاة قبله يكون هذا المال من نصيبه إذا أوصت به له؟ أفيدونا مأجورين، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الأصل أنه يجب على الأم العدل بين أبنائها في العطية، ولا يحل أن تخص أحدهم بالعطية دون الآخرين، جاء في الإقناع وشرحه: ويجب على الأب، وعلى الأم وعلى غيرهما من سائر الأقارب التعديل بين من يرث بقرابة من ولد وغيره كأب وأم وأخ وابنه وعم وابنه في عطيتهم، لحديث جابر قال: قالت امرأة بشير لبشير أعط ابني غلاما وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، قال: له إخوة؟ قال: نعم قال: كلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق ـ رواه أحمد ومسلم وأبو داود ورواه أحمد من حديث النعمان بن بشير، وقال فيه: لا تشهدني على جور، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم ـ وفي لفظ لمسلم: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي في تلك الصدقة ـ وللبخاري مثله، لكن ذكره بلفظ العطية فأمر بالعدل بينهم وسمى تخصيص أحدهم دون الباقين جورا، والجور حرام، فدل على أن أمره بالعدل للوجوب. .اهـ.
وأما تخصيص الأم ابنها الذي كان يختص بنفقتها ببعض المال الذي كان ينفقه عليها: فالذي يظهر أنه جائز، ولا حرج على الابن في قبوله، فقد ذكر بعض الفقهاء أن من مسوغات التخصيص صلاح الابن وبره، جاء في الإقناع وشرحه: ولا فرق في امتناع التخصيص والتفضيل بين كون البعض ذا حاجة، أو زمانة، أو عمى، أو عيال، أو صلاح، أو علم، أو لا، ولا بين كون البعض الآخر فاسقا، أو مبتدعا، أو مبذرا، أو لا، وهو ظاهر كلام الأصحاب، ونص عليه في رواية يوسف بن موسى في الرجل له الولد البار الصالح وآخر غير بار لا ينيل البار دون الآخر، وقيل إن أعطاه لمعنى فيه من حاجة، أو زمانة، أو عمى أو كثرة عائلة، أو لاشتغاله بالعلم ونحوه كصلاحه، أو منع بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه ونحوه جاز التخصيص والتفضيل بالأولى، اختاره الموفق وغيره، استدلالا بتخصيص الصديق عائشة ـ رضي الله عنهما ـ وليس إلا لامتيازها بالفضل. اهـ.
وقال الشيخ القاضي فيصل آل مبارك الحنبلي في تطريز رياض الصالحين: أما لو فضل ذا الحاجة، أو الطاعة، أو البار به على الغني، أو العاصي، أو العاق، فلا كراهة، وإنما كره عند عدم العذر، لما فيه من إيحاش المفضل عليه، وربما كان سببًا لعقوقه. اهـ.
وانظر للفائدة الفتوى رقم: 190481.
وإذا رضي بقية الأبناء بتخصيص أحدهم في العطاء، فإنه جائز بكل حال، جاء في الإقناع وشرحه: وله ـ أي: لمن ذكر من الأب والأم وغيرهما ـ التخصيص لبعض أقاربه الذين يرثونه بإذن الباقي منهم، لأن العلة في تحريم التخصيص كونه يورث العداوة وقطيعة الرحم، وهي منتفية مع الإذن. اهـ.
وأما إذا أوصت لك بعد موتها بهذا المال: فهي وصية لوارث، لا تمضي إلا بإذن بقية الورثة، قال ابن عبد البر: قال مالك: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أنها لا تجوز وصية لوارث، وهذا كما قال مالك ـ رحمه الله ـ وهي سنة مجتمع عليها لم يختلف العلماء فيها إذا لم يجزها الورثة، فإن أجازها الورثة فقد اختلف في ذلك، فذهب جمهور الفقهاء المتقدمين إلى أنها جائزة للوارث إذا أجازها له الورثة بعد موت الموصي، وذهب داود بن علي وأبو إبراهيم المزني وطائفة إلى أنها لا تجوز وإن أجازها الورثة على عموم ظاهر السنة في ذلك. اهـ.
ودليل ذلك: ما أخرجه أحمد والترمذي عن عمرو بن خارجة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث. قال الترمذي: هذ حديث حسن صحيح.
والله أعلم.