الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يفرج كروب إخواننا في غزة وفي جميع البلاد, وأن يوسع أرزاقهم, ويصلح أحوالهم.
ثم إنا نحذرك من التفكير في الانتحار, فإن الانتحار ليس فيه حل لمشكلة, أو نيل لراحة، بل فيه انتقال من شقاء الدنيا إلى الشقاء الأعظم في الآخرة، وفيه خسران الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، فقد قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {النساء:29-30} وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا.
والميتة لا تباح إلا للضرورة بأن يخشى الهلاك, ولم يجد طعاما غيرها, ولم يمكنه الاقتراض, ولا سؤال الناس, قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:173], وقال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام:119} وقال تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {المائدة:3}.
قال ابن قدامة في المغني: أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الاختيار, وعلى إباحة الأكل منها في الاضطرار، وكذلك سائر المحرمات. اهـ
وقال النووي: فرع في مذاهب العلماء في مسائل في أحكام المضطر.
إحداها: أجمعوا أنه يجوز له الأكل من الميتة, والدم, ولحم الخنزير ونحوها للآية الكريمة، واختلف العلماء هل يجب عليه الأكل أم لا يجب. اهـ
ومحل جواز أكل الميتة إن لم يكن الاقتراض أو السؤال ممكنًا, قال ابن قدامة في المغني: وتباح المحرمات عند الاضطرار إليها, في الحضر والسفر جميعًا؛ لأن الآية مطلقة, غير مقيدة بإحدى الحالتين, وقوله: {فمن اضطر} لفظ عام في حق كل مضطر; ولأن الاضطرار يكون في الحضر في سنة المجاعة, وسبب الإباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك; لكون هذه المصلحة أعظم من مصلحة اجتناب النجاسات, والصيانة عن تناول المستخبثات, وهذا المعنى عام في الحالين, وظاهر كلام أحمد: أن الميتة لا تحل لمن يقدر على دفع ضرورته بالمسألة, وروي عن أحمد, أنه قال: أكل الميتة إنما يكون في السفر, يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال, وهذا من أحمد خرج مخرج الغالب, فإن الغالب أن الحضر يوجد فيه الطعام الحلال, ويمكن دفع الضرورة بالسؤال, ولكن الضرورة أمر معتبر بوجود حقيقته, لا يكتفى فيه بالمظنة, بل متى وجدت الضرورة أباحت, سواء وجدت المظنة أو لم توجد, ومتى انتفت, لم يبح الأكل لوجود مظنتها بحال. اهـ
وقال البهوتي في شرح منتهى الإرادات: (ويجب) على مضطر (تقديم السؤال على أكله) المحرم نصًا, وقال للسائل: قم قائمًا ليكون لك عذر عند الله, ونقل الأثرم إن اضطر إلى المسألة فهي مباحة. اهـ
وقد نص المالكية على أن المضطر يقدم طعام الغير على الجيفة إن أمن اتهامهم إياه بالسرقة, قال المواق في شرح مختصر خليل: سئل مالك عن المضطر إلى الميتة أيأكل منها, وهو يجد تمرًا لقوم, أو زرعًا, أو غنمًا بمكانه أم لا ؟ قال مالك: إن ظن أن أهل تلك التمر والزروع أو الغنم يصدقونه بضرورته حتى لا يعد سارقًا فتقطع يده رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه, ولا يحمل من ذلك شيئًا, وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة, وإن هو خشي أن لا يصدقوه وأن يعدوه سارقًا بما أصاب من ذلك, فإن أكل الميتة خير له عندي, وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة. اهـ
والله أعلم.