السؤال
جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، لأن ذراعيه قد بترتا في غزوة مؤتة، فهل الجزاء في الجنة يكون بهذا الشكل زيادة على ما ذكر في القرآن؟ أقصد أنه ليس في وصف الجنة مثل ما حدث لابن أبي طالب، وأسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين سميت بذلك للقصة المشهورة فهل كل من عمل عملاً سيجزي بجنسه ـ الجزاء بجنس العمل ـ فعلى سبيل المثال شج وجه في الدعوة إلى الله، فهل سيجزى بشيء من هذا القبيل؟ وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى قد بين في كتابه عظم أجر الصابرين، وأن أجرهم قد تعدى الموازين والحساب، فلا يعلم جزاؤهم إلا الله، فقال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10}.
قال ابن كثير: قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال، وإنما يغرف لهم غرفاً. انتهى.
وقال أيضاً: قال ابن جريج: بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك.
ولكن هذا الجزاء ليس لنا أن نعينه أو نقيسه على جناحي جعفر ـ رضي الله عنه ـ فليس لنا أن نقول إن كل من فقد شيئا من جسده فإن الله يعوضه عن ذلك الجزء من جسده شيئا معينا، فهذا كله من علم الغيب، ولكن لنا أن نقول إن الله سيعوضه خيرا مما أخذ منه إذا صبر واحتسب، وقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ.
قال الحافظ: قوله: عوضته منهما الجنة ـ وهذا أعظم العوض، لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقائها، وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور، ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر أخرجه البخاري في الأدب المفرد بلفظ: إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت ـ فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء فيفوض ويسلم، وإلا فمتى تضجر وتقلق في أول وهلة ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود. انتهى.
ولعل من المناسب في هذا المقام أن نسوق كلاما نافعا لابن القيم في مدارج السالكين، حيث يقول رحمه الله تعالى: وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطي أضعاف أضعاف ما تقرب به، فما الظن بمن أعطي حال التقرب وذوقه ووجده؟ فما الظن بمن تقرب إليه بروحه وجميع إرادته وهمته وأقواله وأعماله؟ وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه فإنه أهل أن يجاد عليه بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه عوضا عن كل شيء جزاء وفاقا، فإن الجزاء من جنس العمل، وشواهد هذا كثيرة، منها قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ـ ففرق بين الجزائين ـ كما ترى ـ وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه، ومنها أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته، ومنها أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه، ومنها قوله تعالى: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ـ ومنها قوله في الحديث القدسي: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه ـ ومنها قوله: من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ـ الحديث، فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له، وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها، بل أعظم من ذلك، فهذا نموذج من بيان شرف هذه الحياة وفضلها وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة، فكيف إن انصبغ القلب به وصار حالا ملازما لذاته؟ فالله المستعان. انتهى.
والله أعلم.