الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن بغض أهل العلم والدعوة إلى الله تعالى منهي عنه في الأصل؛ لعموم حديث البخاري ومسلم عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا, ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.
وأما اتباع الدليل, والبحث عن الحق، فهو منهج محمود.
وأما الانتقاد المفضي للطعن في أهل العلم, وانتقاصهم: فهو غير جائز شرعًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه. رواه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
وروى الإمام أحمد, وأصحاب السنن عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر من آمن بلسانه, ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين, ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه, يتبع الله عورته؛ حتى يفضحه في بيته.
ورحم الله أبا القاسم الحافظ بن عساكر القائل: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة.
وأما الانتقاد الذي يقتصر فيه على بيان خطأ العالم ـ إن علمت أنه أخطأ فعلًا, وخالف أدلة نصوص الوحي ـ مع التزام أدب الرد, فليس في ذلك ما يعاب عليه فاعله، فإن العلماء لم يزل يرد بعضهم على بعض, وكتبهم مملوءة بذلك، وما من أحد من الناس إلا ويؤخذ من قوله ويترك, إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحق أحق أن يتبع، والخطأ يرد على صاحبه, مع التزام آداب الرد؛ وبهذا يعطى كل ذي حق حقه.
ومن المعلوم أن الخطأ في بعض الجزئيات الذي لا يسلم منه غير المعصوم, لا يضلل صاحبه, ولا تترك الاستفادة منه بسببه، وإنما يترك تقليده فيما خالف فيه الصواب، وبيان الحق في المسألة دون تنقيص للمخطئ؛ إذ لو ترك الناس الاستفادة من كل من أخطأ في منهجه لضاع كثير من العلم، فلا بد من العدل في الحكم على الناس, والاعتراف لذي الفضل بفضله، وقد ذكر الذهبي في الميزان عند كلامه على المبتدعة: أن التشيع بلا غلو, ولا تحرق, كان كثيرًا في التابعين وأتباعهم، قال: فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
وقد دأب العلماء قديمًا عند الكلام في الجرح والتعديل على المقارنة بين الحسنات والسيئات، والحكم بالعدل، وقد سمى بعضهم كتبه بالميزان، كما عمل الذهبي, فقد سمى كتابه الميزان، وسمى ابن حجر كتابه لسان الميزان، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة, مثل الملوك المختلفين على المُلك، والعلماء المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل, لا بجهل وظلم، فإن العدل واجب لكل أحد, وعلى كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقًا لا يباح قط، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ـ وهذا الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل, أو شبهة, أو بهوى نفس؟! فهو أحق ألا يظلم، بل يعدل عليه.
والله أعلم.