السؤال
قرأت لكم فتوى مقتبسة من كلام ابن رجب: "إن اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادح في تمام التوحيد، وكماله" وحصل عندي التباس وتعارض لهذا الكلام مع الحديث القدسي: "يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة" حيث يفهم من الحديث أن الإنسان قد تكون عنده ذنوب كثيرة جدًّا، وارتكب ما نهى الله عنه، وهو موحد غير مشرك شركًا أصغر.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا تعارض بين الأمرين؛ إذ ليست كل طاعة للهوى يكفر صاحبها كفرًا مخرجًا من الملة، وإنما ينقص إيمان الشخص بقدر معصيته إذا قارف الذنوب، فاتباع الهوى مجالاته كثيرة:
فمنها: اتباع الشخص ما يتمناه من الأمور المباحة.
ومنها: اتباع الهوى في فعل محرم، أو التكاسل عن فعل واجب، وهذان لا يحصل بهما الكفر.
ومنها: اتباع الهوى في عبادة غير الله، وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الأخير كفر بلا شك، وقد ورد في هذا المعنى الأخير آيات كثيرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا {الفرقان:43}، وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ {محمد:16}، وقوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ {القصص:50}.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: ليس كل طاعة للهوى شركًا أكبر، أو شركًا أصغر، قد تكون طاعة الهوى معصية فقط ... أنواع المعصية من طاعة الهوى، ولكن لا تسمى شركًا. اهـ.
ومن نظر كلام ابن رجب بكماله فسيتضح له هذا المعنى، فقد قال: قول العبد: لا إله إلا الله، يقتضي أن لا إله له غير الله، والإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له، وإجلالًا، ومحبة، وخوفًا، ورجاء، وتوكلًا عليه، وسؤالًا منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز و جل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وهذا كله من فروع الشرك؛ ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشؤها من طاعة غير الله، أو خوفه، أو رجائه، أو التوكل عليه، والعمل لأجله، كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله، وعلى التوكل على غير الله، والاعتماد عليه، وعلى من سوَّى بين الله وبين المخلوق في المشيئة، مثل أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، وكذا قوله: ما لي إلا الله وأنت، وكذلك ما يقدح في التوحيد، وتفرد الله بالنفع والضر، كالطيرة، والرقى المكروهة، وإتيان الكهان، وتصديقهم بما يقولون، وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادح في تمام التوحيد، وكماله؛ ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي منشؤها من هوى النفس أنها كفر وشرك، كقتال المسلم، ومن أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرجه عن الملة؛ ولهذا قال السلف: كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال الله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه. قال: هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه، وقال قتادة: هو الذي كلما هوي شيئًا ركبه، وكلما اشتهى شيئًا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع، ولا تقوى. وروي من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف: ما تحت ظل سماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع. ويشهد لذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. فدل ذا على أن كل من أحب شيئًا وأطاعه، وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله، وعادى لأجله، فهو عبده وكان ذلك الشيء معبوده، وإلهه. اهـ.
والله أعلم.