السؤال
لم أكن أظن في يوم من الأيام أنني سأكون على هذا الحال من التقرب إلى الله ورجاء محبته، وأسأل نفسي لماذا هداني وأعطاني هذا الإيمان في حين لم أكن أبحث أصلا عن الإيمان والهداية، بل كنت ضالا أحدث الفتيات وأسمع الأغاني، فجاء وقت بعدت عني هذه الشهوات بشكل غريب، وأصبحت مكتئبا وأسمع القرآن، وأنا على هذا منذ فترة، وفي غمضة عين صرت أتقرب إليه وأحب الدين، ولم أكن أنوي التوبة من الأصل، بل كنت كما قلت لا أكترث لهذا، وقد تركت العلاقة مع فتاة كنت أحبها في سابق الزمن وتركت العادة السرية، وقد نصحني أحد بأن أمسح الأغاني مع أنني كنت ملهوفا بسماعها في الأغلب، وتركتها بشكل لا يصدق ووضعت بدلا منها القرآن، فما الطيب الذي كان عندي ليهديني الله من هذا الضلال؟.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنيئا لك بنعمة الهداية والقرب من الله، ونسأل الله جل وعلا أن يزيدنا وإياك إيمانا وهدى وثباتا على ذلك حتى نلقاه جل وعلا : واعلم أن الهداية إلى الإيمان إنما هي بفضل الله، فمن أضله الله فبعدله، ومن هداه فبمحض فضله، وليس في طباع العبد الهدايةُ إلى ذلك، بل متى وُكِلَ إلى طباعه حِيل بينه وبيّن ذلك كله، وهذا هو الإركاس الذي أركسَ الله به المنافقين بذنوبهم، فأعادهم إلى طباعهم، وما خُلِقَتْ عليه نفوسُهم من الجهل والظلم، والربُّ تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره، ونهيه وأمره فيهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم بفضله ورحمته وجعله الهداية حيث تصلح، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحلّ، وذلك موجَب صراطه المستقيم الذي هو عليه. انتهى من الداء والدواء.
ثم اعلم أن الله سبحانه حكيم عليم، لا يهدي إليه إلا من هو أهل لذلك، ومن أهلية العبد لذلك إزراؤه على نفسه ونظره إلى عيوبه وتقصيره، واستعظامه لنعمة الله عليه، وشعوره بأنه ليس أهلا لها، فهذا من أعظم أسباب هداية التوفيق ودوامها يقول ابن القيم رحمه الله: ثم فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب؟ أم هما بمجرد المشية لا سبب لهما؟ فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها، فهو سبحانه خلق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت، فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان وكذلك النوعان كل منهما متفاوت في القبول، فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول، لكن ليس بين النوع الواحد من التفاوت كما بين النوع الإنساني، فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها وخطرها، ويشكر المنعم بها، ويثني عليه بها ويعظمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة من غير أن يكون هو مستحقا لها، ولا هي له ولا به، وإنما هي لله وحده وبه وحده، فوحده بنعمته إخلاصا، وصرفها في محبته شكرا، وشهدها من محض جوده منه وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجز أو ضعفا وتفريطا، وعلم أنه أن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه، وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له، وكلما زاده من نعمه ازداد ذلا له وانكسارا وخضوعا بين يديه وقياما بشكره وخشيته له سبحانه أن يسلبه إياها، لعدم توفيته شكرها كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها، فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يلق أن يقابل به سلبه إياها ولابد، قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ـ وهم الذين عرفوا قدر النعمة وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره، وقال تعالى: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
وعلى ذلك، فننصحك بمداومة استحضار نعمة الله عليك بالهداية، وكلما زادك الله من الهداية ازددت إزراء على نفسك وانكسارا بين يدي خالقك جل وعلا، فبذلك تدوم نعمته عليك وتزداد حتى تصل إلى حسن الختام ـ بإذن اللطيف المنان ـ
وقد ذكرنا بعض الوسائل المعينة على حفظ نعمة الهداية في الفتوى رقم: 16610.
والله أعلم.