الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الوعد بالمغفرة للعصاة الراحمين للخلق.. رؤية شرعية

السؤال

في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم أن رجلا دخل الجنة، وغفر الله له، بسبب كلب سقاه.
هل هذا معناه أن كل عاص، وفاجر، رحيم على الحيوانات، سيدخل الجنة؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله تعالى رحيم، شكور، يجزي الرحماء برحمته، ويثيبهم على ما يفعلون من الإحسان إلى البهائم؛ ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر. وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة مرفوعا: بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته، فغفر لها به. اهـ.

والظاهر من هذا أن الله تعالى غفر لهما بهذا الفعل الذي ينم عن الشفقة والرحمة التي هي سبب من أسباب رحمة الله تعالى لمن تخلق بها، مع ما صاحب ذلك من حسن النية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على قصة هذه المرأة: فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية، والرحمة إذ ذاك. اهـ.

وقد روى الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء.

وقال الحافظ في الفتح: فشكر الله له، فغفر له: أي أثنى عليه، وقبل عمله، وجازاه بفعله. فالفاء تفسيرية، وقال القرطبي: فشكر الله له: أي أظهر ما جازاه به عند ملائكته، فأدخله الجنة. اهـ.

ولكن لا يمكن أن نقول إن كل عاص، رحيم بالحيوان، سيغفر له؛ لأن أمور الوعد والوعيد لا تعمم بالقصص، وإنما يؤخذ العموم من النص كأن يثبت في الحديث: من فعل كذا، فله كذا. وأما الأشخاص فهم يتفاوتون بقدر إخلاصهم، وصدقهم في التعامل مع الله تعالى.

فقد قال شيخ الإسلام في المنهاج: وليس كل حسنة تمحو كل سيئة، بل المحو يكون للصغائر تارة، ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة، والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه، وعبوديته لله، فيغفر الله له به كبائر؛ كما في الترمذي، وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فيقال: هل تنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة قدر الكف، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، فيقول: أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فتوضع هذه البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فثقلت البطاقة، وطاشت السجلات. فهذه حال من قالها بإخلاص، وصدق، كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة، وكذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. وفي لفظ في الصحيحين: إن امرأة بغيا، رأت كلبا في يوم حار، يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها، فسقته به، فغفر لها. وفي لفظ في الصحيحين: أنها كانت بغيا من بغايا بني إسرائيل. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي في طريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له. وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت. فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها، فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبا يغفر لها، وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق، فعله إذ ذاك بإيمان خالص، وإخلاص قائم بقلبه، فغفر له بذلك؛ فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض. وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق، يغفر له؛ قال الله تعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم. (سورة الحج). فالناس يشتركون في الهدايا، والضحايا والله لا يناله الدم المهراق، ولا اللحم المأكول، والتصدق به، لكن يناله تقوى القلوب. وفي الأثر أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب. فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها، ويصغر قدرها بما في القلوب، وما في القلوب يتفاضل، لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله، عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق، ولم يضرب بعضه ببعض ...اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني