السؤال
إذا كان شخص ما قد سألكم سؤالا ما، ولم ينتظر إجابته، ثم قام بهذا الأمر الصالح, ولكنه يريد أن يفهم هذا الأمر جيدا كالتوبة مثلا.
فهل هو معذور بمرور هذا الوقت؟ أم كانت عليه المبادرة إلى التوبة مع جهله ببعض الأمور كحكم بعض المعاصي التي ارتكبها وإلى آخره؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه قد اختلف في حصول القبول والثواب لمن عمل عملا صالحا، موافقا للشرع حال جهله.
كما قال بعضهم:
وابن أبي جمرة قد قال ففي * عبادة الجاهل أقوال تفي
فقيل يؤجر، وقيل يؤزر * وقيل لا ولا، وهوُ الأشهر
وأما التائب فيجب عليه البدار بالتوبة، والإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العود. ولو اقترف قبل المعرفة شيئا يخفى تحريمه على الجهال فنرجو أن يكون معذورا، وأما ما انتشر تحريمه وشاع، فلا يعذر من اقترفه مثل شرب الخمر، فإن عمر- رضي الله عنه- جلد من كان لا يرى تحريم الخمر، ويشربها.
قال ابن قدامة في المغني: ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه؛ للنصوص الواردة فيه، كلحم الخنزير، والزنى، وأشباه هذا، مما لا خلاف فيه، كفر. وإن استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل، فكذلك. وإن كان بتأويل كالخوارج، فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق زمنه، متقربا بذلك، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا. وقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا لها، فأقام عمر عليه الحد، ولم يكفره، وكذلك أبو جندل بن سهيل، وجماعة معه، شربوا الخمر بالشام مستحلين لها، مستدلين بقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا {المائدة: 93 } فلم يكفروا، وعرفوا تحريمها فتابوا، وأقيم عليهم الحد، فيخرج فيمن كان مثلهم حكمهم، وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله، لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك، وتزول عنه الشبهة، ويستحله بعد ذلك. اهـ.
واعلم أن تأخير التوبة لا يجوز، فإن تأخيرها من وساوس الشيطان التي يريد أن يثبطك بها عن التوبة.
فقد قال ابن القيم رحمه الله: الْمُبَادَرَة إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا، فَمَتَى أَخَّرَهَا عَصَى بِالتَّأْخِيرِ، فَإِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ بَقِيَ عَلَيْهِ تَوْبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ تَوْبَتُهُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَقَلَّ أَنْ تَخْطُرَ هَذِهِ بِبَالِ التَّائِبِ، بَلْ عِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِ التوبة. انتهى.
والمسوف للتوبة على خطر عظيم، فإنه لا يدري أيعيش حتى يتمكن من التوبة أو لا؟ ثم إن التوبة من الذنب قبل تمكنه، وحصول الإلف له، أيسر بكثير، فمن كان ذا ذنب، ثم أخر التوبة منه إلى غد، فغالب الظن أنه غدا سيكون أعجز عن تلك التوبة.
وهذا كلام نفيس جدا لأبي حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ في علاج تسويف التوبة، يقول ما عبارته: وأما تسويف التوبة: فيعالجه بالفكر في أن أكثر صياح أهل النار من التسويف؛ لأن المسوف يبني الأمر على ما ليس إليه، وهو البقاء، فلعله لا يبقى، وإن بقي فلا يقدر على الترك غدا كما لا يقدر عليه اليوم، فليت شعري هل عجز في الحال إلا لغلبة الشهوة؟ والشهوة ليست تفارقه غداً، بل تتضاعف، إذ تتأكد بالاعتياد، فليست الشهوة التي أكدها الإنسان بالعادة كالتي لم يؤكدها، وعن هذا هلك المسوفون؛ لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين، ولا يظنون أن الأيام متشابهة في أن ترك الشهوات فيها أبداً شاق، وما مثال المسوف إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة، فقال أؤخرها سنة، ثم أعود إليها، وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه، فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته، إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف، فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه، وقوي الضعيف. انتهى.
والله أعلم.