الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن مجال العلوم الإنسانية في العصر الحاضر قد حوى كثيرًا من المفاسد الفكرية، واقترن به كثير من الانحرافات العقدية.
قالت الدكتورة آمال العمرو في أطروحتها للدكتوراه: (الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية): انتشر الإلحاد منذ القرن التاسع عشر، حيث صيغت العلوم الإنسانية، وجذور العلوم البحتة، على أسس الإلحاد بالله، والتفسيرات المادية، وانتشر انتشارًا لا سابق له في الجاهليات القديمة. اهـ.
وقال الدكتور عبد الله الجربوع في رسالته للماجستير (أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة): قد اشتدت في هذا القرن حيث تنوعت وتطورت الوسائل الناقلة لها، وفرضت المبادئ الإلحادية على كثير من الشعوب الإسلامية، ووضعت أسس العلوم الإنسانية والمادية على أيدي غير المسلمين، فأقيمت على قواعد إلحادية في معظمها، ونظريات جاهلية، تهدف إلى حرف العقائد والسلوك، وتسير بمن يتعلمها - إلا من رحم الله - ليلتقي من حيث لا يشعر مع طريق اليهود والنصارى أو الملحدين في فكره ومنهج حياته، وتصوراته في الكون والحياة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن المروجين للأفكار الهدامة، والشبهات المضللة من أعظم المفسدين في الأرض. اهـ.
وقال الدكتور سفر الحوالي في (شرح الطحاوية): ويقاس على هذا ـ يعني العلم الذي لا ينفع ـ نظريات علم الاجتماع، وعلم النفس، والقوانين الوضعية بجميع أنواعها، وأكثر هذه العلوم التي تسمى العلوم الإنسانية، التي لا تثمر هدى، ولا صلاحًا، ولا فلاحًا، ولا خيرًا لمن يقرأها. اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه (كواشف زيوف) تحت عنوان: (حركات التضليل في مجالات العلوم الإنسانية): وجد المضللون المفسدون في الأرض العلوم الإنسانية ميادين رحبة، وأرضًا ملائمة، للقيام بنشاطاتهم فيها، فاتخذوا منها مواقع ومراتع، وأقاموا فيها مؤسسات توجيهية، ومدارس تعليمية، لبثِّ أفكارهم وضلالاتهم، ونشطوا فيها نشاطًا شيطانيًا منقطع النظير، وسخروا أذكياء دهاةً من متخصصين في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، لوضع وترويج أفكار ومذاهب مختلفة متناقضة، قائمة على إطلاق الأهواء، والشهوات، والرغبات النفسية، والأنانيات الفردية والقومية والأسرية والعنصرية والمذهبية، والعصبيات المتنوعة، إطلاقًا أرعن طائشًا. اهـ.
والمقصود أن العلوم الإنسانية المبنية على فكر ضال، وتصور فاسد، وعقيدة منحرفة، تتعارض بالفعل مع الهدي الموروث عن الأنبياء، وتتناقض مع الوحي الإلهي، وهي بذلك من العلوم الدخيلة المذمومة، ولا تجوز دراستها إلا لمن علم حالها، ولم يتأثر بمفاسدها، وراجعي الفتويين: 132439، 119416.
إلا أن هذا لا يمنع من إمكانية صياغة هذه العلوم صياغة جديدة مبنية على أصول العقيدة الصحيحة، ومتفقة مع علوم الشريعة.
ونسبتها حينئذ للإنسانية يكون من باب الجمع، والترتيب، والصياغة، والاجتهاد في الإصابة.
وقد جاء في توصيات المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة، وإعداد الدعاة، المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: العناية بالإعداد العلمي والثقافي للداعية، حتى تكون دعوته على بصيرة، كما أمر الله، بحيث يعرف دعوته، ويعرف عصره، ويعرف من يدعو، وكيف يدعو، وذلك عن طريق منهج متكامل، تشترك في وضعه لجنة من كبار العلماء والدعاة في العالم الإسلامي على أن تتوافر فيه المقومات التالية: ... د ـ القدر المناسب من الثقافة العامة، والعلوم الحديثة، وبخاصة العلوم الإنسانية، على أن يدرسها من يوثق بدينه عقيدة وعملا ... اهـ.
ولما أنشئ مركز الدراسات القرآنية في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، كان من أهم أهدافه: بيان أصالة المفاهيم القرآنية، والاستفادة من القرآن الكريم في تأصيل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبيان التوجيه القرآني للعلوم. اهـ.
وقال الدكتور ناصر العقل في (شرح الطحاوية): هناك من العلوم الدنيوية ما يكون فيه نوع اشتباه بالعلوم الشرعية، تختلط مسائله وأصوله وقواعده وجزئياته بالعلوم الشرعية، وهذا لا بد أن يكون للشرع فيه رأي حتى في بعض تفصيلاته، وهو ما يسمى بالعلوم الإنسانية، وبعض المفكرين، أو بعض المثقفين حتى من المسلمين يزعم أن العلوم الإنسانية لا دخل للشرع فيها، كعلوم الاجتماع، وعلوم السياسة، وعلوم الاقتصاد، وعلوم التاريخ والحضارة، وسائر العلوم الإنسانية، وأنها إنما تحكم بقواعدها عند المتخصصين، وهذا خطأ فادح انبنى عليه في العصر الحاضر أخطاء كثيرة في مفاهيم المسلمين وأعمالهم دولاً وشعوباً، وترتب عليه أخطاء قد يصعب علاجها إلا بعد سنين، وسبب ذلك عزل العلوم الإنسانية عن علوم الشرع، فالعلوم الإنسانية ليست كالعلوم الطبيعية والمادية، بل لا بد من أن تحكم بالشرع جملة وتفصيلاً، ولا بد من أن تنطلق من منطلقاته الأساسية في قواعدها، وفي أصولها، وفي أهدافها، وفي مسائلها الجزئية، وفي أحكامها، وفي تطبيقاتها، لا بد أن تنظم بأصول الشرع والفقه الإسلامي، والفقه ثري بهذه الأمور، بل أغلب الفقه الإسلامي - إذا استثنينا منه العبادات - وجله في العلوم الإنسانية، كعلوم الاجتماع، وأحكام الأسرة، وعلوم الاقتصاد، والبيع، وعلوم السياسة، والأحكام السلطانية، وغيرها، فالعلوم الاجتماعية في عصرنا الآن مفصولة عن أحكام الشرع التفصيلية، وعزلها عن الفقه يعتبر كارثة أوقعت المسلمين في كثير من الأخطاء والمفاهيم الخطيرة التي أدت إلى الوقوع في انحرافات يصعب علاجها إلا بعد حين. اهـ.
وعلى ذلك، فمجرد المصطلح والتسمية بالعلوم الإنسانية لا حرج فيه، ولكن المهم أن تخلو مادتها من أسباب الضلالة.
والله أعلم.