الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن قيام المرء لتجلس العجوز مكانه يعتبر من الأمور المحمودة، ولكنه إذا حصل ذلك بنية فاسدة وهي مسه لامرأة أجنبية فإنه يكون آثما بذلك، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، واقتراف المحرمات ليس من أسباب السعادة للمؤمن ولا للكافر، بل هو سبب الشقاء والنكد، ولا سبيل للسعادة إلا بالإيمان والطاعة والعمل الصالح، فقد قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {الرعد:28}.
وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً {النحل:97}.
وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124}.
وقد جاء في التحرير والتنوير: رَتَّبَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ هَدْيِ اللَّهِ، اخْتِلَالَ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَعِيشَةُ مُرَادٌ بِهَا مُدَّةُ الْمَعِيشَةِ، أَيْ مُدَّةُ الْحَيَاةِ. اهـ.
ويقول ابن كثير: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ـ أَيْ: خَالَفَ أَمْرِي، وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَنَاسَاهُ، وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هُدَاهُ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ـ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ، وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرج لِضَلَالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّم ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ، وَأَكَلَ مَا شَاءَ، وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قلبه مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى، فَهُوَ فِي قَلَقٍ وَحَيْرَةٍ، وَشَكٍّ، فَلَا يَزَالُ فِي رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ، فَهَذَا مِنْ ضَنْكِ الْمَعِيشَةِ. اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق، فلما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم، والخوف والحزن، وضيق الصدر، وأمراض القلب، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم، وسئمتها نفوسهم، ارتكبوها دفعا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم، كما قال شيخ الفساق ـ يعني أبا نواس: وكأس شربت على لذة * وأخرى تداويت منها بها ـ وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار. انتهى.
واعلم أنه قد اتفق الأئمة الأربعة على حرمة الاحتكاك والتماس بين الأجنبيين، لما يخشى حصوله من الفتنة، قال النووي رحمه الله: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، ولا يجوز مسها. انتهى.
وأخرج الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له.
وفي الحديث: ولأن يزحم رجل خنزيرا متلطخا بطين، أو حمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له. رواه الطبراني.
هذا، وننبه إلى أن الاختلاط في وسائل المواصلات العامة بين الرجال والنساء باب فتنة وذريعة فساد فينبغي على المسؤولين ترتيب هذا الأمر، وتخصيص أماكن للنساء وأخرى للرجال، كما ننبه إلى أن المسلم ينبغي له في كل أحواله أن يكون حريصا على نيل وطلب رضوان الله تعالى ويجعله غايته في كل عمل كسب مرضات الله تعالى، قال ابن القيم رحمه الله: فإن كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية, فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الايمان, فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض... وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته, وهو الاحتساب. اهـ.
ومن تأمل النصوص الشرعية في القرآن والسنة وجدها ترغب في فعل الخير ابتغاء مرضاة الله، كما في قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {البقرة:265}.
وكقوله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {البقرة:272}.
وكقوله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {النساء:114}.
وكما في قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى {الليل17ـ21}.
والله أعلم.