السؤال
من المعروف أن الوسواس القهرى يصيب ضعاف الإيمان؛ لجهلهم بالعلم الشرعي. فكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول له أصحابه إنهم يجدون ذلك- وبالطبع الصحابة إيمانهم قوي- يقول لهم إنه صريح الإيمان. ومن المعروف أيضا أن بعض الصحابة مثل سفيان الثوري كان مصابا بالوسواس. فكيف وهو قوى الإيمان والوسواس لا يصيب إلا الجاهل !
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالوسواس القهري مرض له أسبابه العضوية، وهذا المرض كغيره من الأمراض يصيب المؤمن وغيره، ولكن المؤمن لكمال إيمانه، واستعانته بالله سبحانه، يذهب الله عنه بلطفه هذا الداء؛ ولتنظر الفتوى رقم: 3086.
وأما ما عرض للصحابة من الوساوس، فتلك خواطر كان الشيطان يلقيها في قلوبهم، وليست هي الوسواس القهري الذي يتكلم عنه الأطباء، وكانوا يكرهون تلك الوساوس والأفكار، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كراهتهم لها، ونفورهم منها هو صريح الإيمان، فعلى من يصاب بمثل هذه الوساوس أن يدافعها حتى تذهب عنه، ويتخلص منها بحول الله وقوته.
وقد يبتلى أهل الصلاح والدين بهذه الوساوس أكثر من غيرهم؛ لأن الشيطان ظفر بمطلوبه من سواهم، فهم لاهون، صادون، معرضون، بخلاف أولئك الذين غلب عليهم التدين، فيريد الشيطان أن يصيدهم في شرك الوسوسة، ولكن من صدق في اللجأ إلى الله، والإنابة إليه، صرف الله عنه هذه الوساوس.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- هذا المعنى بيانا شافيا فقال ما عبارته: والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره. كما قالت الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: ذاك صريح الإيمان. وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب، هو من صريح الإيمان؛ كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه؛ فهذا أعظم الجهاد و " الصريح " الخالص كاللبن الصريح. وإنما صار صريحا لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية، ودفعوها، فخلص الإيمان فصار صريحا. ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا؛ ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب، فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا، وإما أن يصير منافقا؛ ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه، والتقرب إليه، والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه؛ بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه. وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله. قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} ولهذا أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به، تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقينا، وطمأنينة، وشفاء. انتهى.
وإذا تبين هذا، عرف سر إصابة بعض الصالحين بالوسوسة، وننبه إلى أن سفيان الثوري- رحمه الله- لم يكن من الصحابة، بل هو من أتباع التابعين.
والله أعلم.