السؤال
أحفظ القرآن، ولكنني أجد صعوبة في الاستمرار في حفظ الأحاديث، حيث أبدأ متحمسًا في حفظ مختصر البخاري، ثم أتوقف لشهور، وحتى لا أطيل على فضيلتكم، فسؤالي متعلق بحديث النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر من جانب:
1ـ هل حث الشرع على حفظ متون الأحاديث كما حث على حفظ القرآن؟ وما الدليل؟.
2ـ هل الحديث يتعبد بلفظه مثل القرآن؟.
3ـ هل تغني قراءة الأحاديث النبوية باستمرار عن حفظها؟.
4ـ هل الأفضل أن أنتهي من قراءة أكبر قدر من الأحاديث، أم البدء بالحفظ، وحينئذ لا أحصل على قدر كبير مثل القراءة فقط؟.
5ـ هل العمل بالحديث بعد معرفة حكمه يغني عن حفظ المتن؟.
أعتذر جدًّا عن الإطالة؛ حيث إن الأمر التبس عليّ، وأصبحت مشتتًا بين قصد القراءة فقط، أو الحفظ، وإذا بدأت في الحفظ فلا أستمر، فهل أشغل نفسي بمراجعة القرآن، والاكتفاء بقراءة الأحاديث فقط بحجة أن القرآن هو الذي يتعبد بلفظه.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأحاديث النبوية مأمور بحفظها في الشرع، وما يدل على ذلك حديث زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه. أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان.
ومن اللطائف في هذا: تفسير بعض العلماء ما جاء من النهي عن كتابة الأحاديث أنه من أجل الحث على حفظها، فقد أخرج مسلم في صحيحه أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه.
قال ابن حبان معلقًا على الحديث: زجره صلى الله عليه وسلم عن الكتبة عنه سوى القرآن، أراد به الحث على حفظ السنن، دون الاتكال على كتبتها، وترك حفظها، والتفقه فيها، والدليل على صحة هذا إباحته صلى الله عليه وسلم لأبي شاه كتب الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بالكتبة. اهـ.
لكن لا شك أن الحث على حفظ السنة ليس كحفظ القرآن العظيم، فإن عامة المحدثين على جواز رواية الحديث النبوي بالمعنى، وقد سبق أن بينا هذا وضوابطه في الفتويين رقم: 62130، ورقم: 70819.
وكذلك، فإن القرآن الكريم متعبد بتلاوته قطعًا، بخلاف الأحاديث النبوية، فالتعبد بقراءتها محل خلاف بين العلماء، جاء في ألفية السيوطي وشرحها للأثيوبي: 606ـ وهل يثاب قارئ الآثار ... كقارئ القرآن: خلف جاري ـ وهل يثاب ويؤجر قارئ الآثار أي: الأحاديث النبوية، وبالأولى الموقوفات، وكذا سامعها من غير قصد الحفظ، ونحوه، كقارئ القرآن، أي: كما يثاب قارئ القرآن من حيث أصل الثواب، وإلا فثواب القرآن بكل حرف بخلاف غيره، خلف بالضم أي: اختلاف، مبتدأ سوغه كونه موصوفًا بمحذوف، أي بين العلماء، وقوله: جاري خبره.
وحاصل معنى البيت: أنه جرى اختلاف بين العلماء في أن قارئ الحديث مجردًا يثاب كقارئ القرآن أولا؟ فقال الشيخ أبو إسحاق: إن قراءة متونها لا يتعلق بها ثواب خاص لجواز روايتها بالمعنى، واستظهره ابن العماد الأقفهسي، قال: وإذا كانت قراءته المجردة لا ثواب فيها لم يكن في استماعه المجرد ثواب بالأولى، وقال بعضهم: بالثواب على ذلك، واستوجهه المحقق ابن حجر الهيتمي قال: لأن سماعها لا يخلو من فائدة، ولو لم يكن إلا عود بركته على القارئ والمستمع، وقلنا: مجردًا؛ لأنه لو قصد بقراءته، أو سماعه الحفظ، وتعلم الأحكام والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، واتصال السند لا خلاف في ثوابه. اهـ.
والعمل بالحديث لا يغني عن حفظه، فتحصيل فضل حفظ الحديث وتبليغه لا يحصل بمجرد العمل به.
وعلى كل حال، فإن لم يفتح عليك في الحفظ، ولم ترزق ملكته، فلتقتصر على مداومة النظر، واستظهار الأحاديث مع الاشتغال بالتفقه فيها، وحفظ ألفاظ الأحاديث أو استظهارها بكثرة قراءتها كلاهما أمر حسن طيب، فلا ينبغي أن تحار في سلوك أحد الطريقين، المهم أن تشغل نفسك بطلب العلم بما تقدر عليه، مع دوام الضراعة إلى الله أن ييسر لك سبيل العلم، مع التنبه إلى أن الإقلال من حفظ الأحاديث، مع إتقانها، والتفهم لمعانيها، والتفقه فيها أولى وأحرى من الإكثار من حفظ الأحاديث دون تفقه فيها، وقد بوب ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: باب ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له والتفقه فيه. اهـ.
وذكر تحته آثارًا، فيحسن بك الرجوع إليه.
والله أعلم.