الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحلف على أمر ماض لا كفارة فيه عند جماهير العلماء؛ لأنه لا يخرج عن أن يكون يمين لغو، أو يمين غموس، ولا إثم فيه إذا كان الحالف معتمدًا على غلبة ظن، قال ابن قدامة في المغنى: لا كفارة في يمين على ماض؛ لأنها تنقسم ثلاثة أقسام: ما هو صادق فيه, فلا كفارة فيه إجماعًا، وما تعمد الكذب فيه, فهو يمين الغموس, لا كفارة فيها؛ لأنها أعظم من أن تكون فيها كفارة، وما يظنه حقًّا, فيتبين بخلافه, فلا كفارة فيه؛ لأنه من لغو اليمين. اهـ.
وقد حكى بن عبد البر الإجماع على أن يمين اللغو لا كفارة فيها، وقال الكاساني في بدائع الصنائع: وَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ: فَلَا كَفَّارَةَ فيها بِالتَّوْبَةِ، وَلَا بِالْمَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ ـ أَدْخَلَ كَلِمَةَ النَّفْيِ على الْمُؤَاخَذَةِ، فَيَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ فيها بِالْإِثْمِ وَالْكَفَّارَةِ جميعًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا في تَفْسِيرِهَا. اهـ.
وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في الرسالة:.. ويمينان لا تكفران: إحداهما: لغو اليمين، وهو أن يحلف على شيء يظنه كذلك في يقينه، ثم يتبين له خلافه، فلا كفارة عليه, ولا إثم. اهـ.
وقال الشافعي في الأم: إنا نقول إن اليمين التي لا كفارة فيها, وإن حنث فيها صاحبها إنها يمين واحدة، إلا أن لها وجهين: وجه يعذر فيه صاحبه، ويرجى له أن لا يكون عليه فيها إثم؛ لأنه لم يعقد فيها على إثم، ولا كذب، وهو أن يحلف بالله على الأمر لقد كان ولم يكن، فإذا كان ذلك جهده، ومبلغ علمه، فذلك اللغو الذي وضع الله تعالى فيه المؤنة عن العباد، وقال: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان. اهـ.
وقال الزركشي في شرحه على مختصر الخرقي بتصرف: اليمين على الماضي إن كان مخطئاً فيها معتقداً أن الأمر كما حلف عليه، فهي من لغو اليمين، ولا كفارة فيها، وبيان أنها من لغو اليمين أن المؤاخذة منتفية فيها؛ إذ المؤاخذة إنما تكون مع قصد المخالفة، ولا مخالفة؛ ولهذا لا يأثم الحالف، والحال هذه. اهـ.
فهذه ـ كما رأيت ـ نماذج من أقوال مختلف المذاهب، وهي مطبقة على أن اليمين على أمر ماض مظنون لا كفارة فيها، ولا إثم لأنها من اللغو، ومثلها في عدم الكفارة ـ عند الجمهور عدا الشافعية ـ اليمين على ماض، وهو يعلم يقينًا أنه كاذب فيها، مع اتفاق الجميع على حرمتها، وعظم إثمها، لكن تبقى مسألة حلف الإنسان على أمر ماض يشك فيه ـ كما هو ظاهر حال السائل ـ هل هي من الغموس الذى فيه الإثم، أم من اللغو المعفو عن صاحبه؟ والشك درجة دون الظن؛ لأنه ـ كما عرفه أهل الأصول: استواء الطرفين دون رجحان أحدهما على الآخر، قال في المراقي:
والظن والوهم وشك ما احتمل لراجح أو ضده أو ما اعتدل.
ومسألة الحلف على ماض مع الشك فيه لم نطلع فيها على كلام صريح لأصحاب المذاهب، فكل ما قرأنا من كلامهم كان منصبًّا حول الظن، إلا المالكية، فإنهم نصوا عليها بشكل صريح، وعدوها من الغموس الذي فيه الإثم دون الكفارة، جاء في الشرح الصغير للدردير: واليمين بالله، أو بصفة من صفاته على ما تقدم قسمان: منعقدة، وهي ما فيها الكفارة، وغيرها ـ أي غير منعقدة ـ وهي ما لا كفارة فيها، وهي: أي غير المنعقدة قسمان أيضًا: الأول: الغموس، سميت غموسًا: لأنها تغمس صاحبها في النار، أي سبب غمسه فيها؛ ولذا لا تفيد فيها الكفارة, بل الواجب فيها التوبة، وفسرها بقوله: بأن حلف بالله على شيء مع شك منه في المحلوف عليه, أو مع ظن فيه, وأولى إن تعمد الكذب، ومحل عدم الكفارة فيها: إن تعلقت بماض، نحو: والله ما فعلت كذا، أو لم يفعل زيد كذا، أو لم يقع كذا, مع شكه أو ظنه في ذلك، أو تعمده الكذب. اهـ.
وللشيخ ابن عثيمين كلام قريب من هذا المعنى، فقد جاء في فتاوى نور على الدرب: إذا حلف على شيء يعلم إنه كاذب فيه، فقد تحمل إثمين: الإثم الأول: الكذب، والإثم الثاني: الاستهانة باليمين، حيث حلف على كذب، فيكون كما قال الله فيهم: ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ـ فعليه أن يتوب إلى الله من هذا الذنب الذي فعله، والذي تضمن سيئتين، ولا كفارة عليه؛ لأن الكفارة إنما تكون في الحلف على شيء مستقبل، أما الحلف على شيء ماض فهو إما سالم، وإما آثم، فإن كان يعلم أنه كاذب، أو يغلب على ظنه أنه كاذب، فهو آثم، وإن كان يعلم أنه صادق، أو يغلب على ظنه أنه صادق، فهو غير آثم، أما الكفارة: فلا تجب في الحلف على أمر ماض، ولو كان كاذبًا فيه. اهـ.
وراجع الفتوى رقم: 250813.
والله أعلم.