الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف العلماء فيمن قالت لامرأة في معرض السب أنها فاجرة، فذهب المالكية إلى أن هذا من القذف الموجب للحد جاء في شرح الخرشي على خليل: وكذلك يحد من قال لامرأة: يا قحبة ـ وهي الزانية ـ ولا فرق في ذلك بين زوجته والأجنبية، ومثله: يا فاجرة، يا عاهرة. انتهى.
وذهب الحنابلة إلى أنه يرجع إليها في تفسير هذا اللفظ، فإن فسرته بالزنا فهو قذف وعليها الحد، وإن فسرته بغير الزنا فلا حد عليها، جاء في المغني: وكلام الخرقي يقتضي أن لا يجب الحد على القاذف إلا بلفظ صريح لا يحتمل غير القذف وهو أن يقول: يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع، فأما ما عداه من الألفاظ فيرجع فيه إلى تفسيره، لما ذكرنا في هاتين المسألتين، فلو قال لرجل: يا مخنث، أو لامرأة: يا قحبة، وفسره بما ليس بقذف مثل أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث والتشبه بالنساء، وبالقحبة أنها تستعد لذلك، فلا حد عليه، وكذلك إذا قال: يا فاجرة، يا خبيثة. انتهى.
وقريب من مذهب الحنابلة مذهب الشافعية، فقد جاء في إعانة الطالبين: والثاني: هو ما احتمل القذف واحتمل غيره كقوله زنأت بالهمز في الجبل أو نحوه، فهو كناية، لأن ظاهره يقتضي الصعود، وكقوله لرجل يا فاجر، يا فاسق، يا خبيث، ولامرأة: يا فاجرة، يا خبيثة، يا فاسقة، وأنت تحبين الخلوة أو الظلمة، أو لا تردين يد لامس، فإن نوى به القذف ح،د وإلا فلا، وإذا ادعي عليه بأنه أراده وأنكره صدق بيمينه في أنه ما أراده. انتهى.
وأما عن مؤاخذتك أنت بالسب الذي سببتها به: فإنك لا تؤاخذين ما لم تجاوزي القدر الذي سبتك به، والأفضل لك هو العفو عنها والحلم، فقد قال الله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {فصلت:34-35}.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، فَقَالَ: يَا عُقْبَةُ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. رواه أحمد، وصححه الألباني.
وفي الحديث: المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادئ منهما كله، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار، فيقول للبادئ أكثر مما قال له، وفي هذا جواز الانتصار، ومع هذا فالصبر والعفو أفضل، قال الله تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ـ ولحديث: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. اهـ.
وقد سبق لنا تفصيل ذلك مع ذكر الخيارات الثلاثة المتاحة للمظلوم مع ظالمه، وذلك في الفتويين رقم: 114087، ورقم: 30075.
ولا أثر لخلافك معها على قبول الصيام، فإن الوعيد الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. رواه الإمام مسلم.
لا يلزم من هذا الحديث أن الصوم باطل أو مردود على المتشاحنين بالكلية، ولكن الظاهر أنهما يحرمان من المغفرة التي ينالها كل مؤمن يوم الاثنين ويوم الخميس، وتؤجل المغفرة لهما حتى يصطلحا أو ينتهي هجر من هجر منهما، فلم يذكر في الحديث أن العمل يبطل، ولم نقف على حديث يدل على ذلك, ولا من قال بذلك من أهل العلم، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 136063.
وإذا كنتما عند اللقاء تسلم كل منكما على الأخرى فهذا لا يعتبر من الهجران المحرم، فقد قال ابن حجر: قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده، وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولاً، وقال أيضاً: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام، وكذا قال ابن القاسم.
والله أعلم.