السؤال
أنا منذ عدة سنوات دائما أجد نفسي مهموما بدون سبب، وأفكر بالمجهول وأشعر بقلق من المستقبل، وأشعر بأن الناس لا تعتبر لي أي قيمة، على الرغم أنني لم أؤذ أحدا، وبما أن هذه الأمور بدأت تحدث معي منذ بدأ ارتكابي للمعاصي، فهل يوجد علاقة بين الذنوب وبين نفسية الإنسان وعلاقاته مع الناس؟.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يذهب عنك الهم والضيق والحزن، وأن يبدلك مكانه فرحا وسرورا وسعة وحبورا، ثم إنه لا يبعد أن يكون ما تحس به من الشعور بالهم والغم وعدم اعتبار الناس لك من آثار الذنوب والمعاصي، فإن الذنوب سبب قوي ومباشر لما يحل بالإنسان من المصائب والقلاقل وضيق الصدر والاكتئاب أو ما شابه ذلك، والوحشة بينه وبين الله وبين الناس، ومصداق ذلك قول الحق سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى:30}، وقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124}،
جاء في التحرير والتنوير: رَتَّبَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ هَدْيِ اللَّهِ، اخْتِلَالَ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَعِيشَةُ مُرَادٌ بِهَا مُدَّةُ الْمَعِيشَةِ، أَيْ مُدَّةُ الْحَيَاةِ. اهـ.
ويقول ابن كثير: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أَيْ: خَالَفَ أَمْرِي، وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَنَاسَاهُ، وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هُدَاهُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ، وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرج لِضَلَالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّم ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ، وَأَكَلَ مَا شَاءَ، وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قلبه مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى، فَهُوَ فِي قَلَقٍ، وَحَيْرَةٍ، وَشَكٍّ، فَلَا يَزَالُ فِي رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ. فَهَذَا مِنْ ضَنْكِ الْمَعِيشَةِ. اهـ.
ويقول السعدي: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} أي: فإن جزاءه، أن نجعل معيشته ضيقة، مشقة، ولا يكون ذلك إلا عذابا. وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، وأنه يضيق عليه قبره، ويحصر فيه، ويعذب، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه. اهـ.
ويقول سيد قطب في الظلال: والحياة المقطوعة الصلة بالله، ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع، إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله، والاطمئنان إلى حماه، ضنك الحيرة، والقلق، والشك، ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد، والحذر من الفوت، ضنك الجري وراء بارق المطامع، والحسرة على كل ما يفوت، وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله، وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي: ومنها ـ عقوبات المعاصي ـ: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله جل وعلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام، وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب فالله المستعان، ومنها الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشا من نفسه، وقال بعض السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي، ومنها تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا، فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا. انتهى بتصرف.
فتب إلى الله، واندم على ما فرطت في جنبه تعالى، واعقد العزم على التمسك بدين الله وعدم التفريط في شيء من شرعه، فإن الله تعالى بمنه وكرمه وعد التائب الصادق بقبول توبته وبمحو ذنوبه بالغة ما بلغت، فقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}، وقال : وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82}، وقال سبحانه: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ {هود:114}،
وروى الترمذي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة.
والتمس رفقة صالحة من الشباب المستقيم، فإن صحبتهم تغري بالصلاح، وتعاون معهم على طلب العلم النافع والدعوة إلى الله تعالى، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
وينبغي أن يكون الإنسان على خوف وقلق من المستقبل الأخروي والمصير الذي ينتظره، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ {الشورى:7}، والمؤمن يتذكر الموت والقبر والحساب والعرض، وهذا ما يخافه المؤمن مع رجائه رحمة الله وعفوه.
واما الهم الدنيوي فعالجه بالدعاء الماثور فقد جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحا.
وفي صحيح البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يكثر القول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن. وعن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم، فإذا برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، فقال: أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال: فقلت ذلك، فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى ديني. رواه أبو داود.
والله أعلم.