الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن النصح للوالدين ليس كنصح غيرهما، كما بيناه في الفتاوي: 134356، 139535. ولا يجوز هجرهما لأجل معصيتهما، بل يجب الإحسان إليهما ولو كانا مشركَين بالله، والشرك أعظم الذنوب، فما دونه من الكبائر أو الصغائر أولى.
فإن طلبت منك أمك إيصالها إلى أختها، وكانت هي من عادتها أنها تزور أختها من باب التسامر وصلة الرحم، والتدخين هناك قد يكون وقد لا يكون، فلك إيصالها، ولا شيء عليك، لأنها لم تذهب لأجل المعصية، بل لأمرٍ مشروع، وإن كانت قد تعصي هناك، بخلاف ما إذا كانت ذاهبةً لأجل المعصية.
وهذا التفريق معتبرٌ في الشريعة، وهو نظير ما قالوا في الترخص في السفر بالقصر والفطر، أنه من باب الإعانة، وفرقوا بين العاصي بسفره بأن أنشأه لأجل المعصية، والعاصي في سفره بأن أنشأه لقصد مشروعٍ وعصى فيه.
قال ابن تيمية في "شرح حديث إنما الأعمال بالنيات": [والسفر جنسٌ تحته أنواع مختلفة تختلف باختلاف نية صاحبه؛ فقد يكون سفرًا واجبًا كحج أو جهاد متعين، وقد يكون محرمًا كسفر العادي لقطع الطريق، والباغي على جماعة المسلمين، والعبد الآبق، والمرأة الناشز. ولهذا تكلم الفقهاء في الفرق بين العاصي بسفره والعاصي في سفره، فقالوا: إذا سافر سفرًا مباحًا كالحج والعمرة والجهاد، جاز له فيه القصر والفطر باتفاق الأئمة الأربعة، وإن عصى في ذلك السفر. وأما إذا كان عاصيًا بسفره كقطع الطريق وغير ذلك، فهل يجوز له الترخص برخص السفر كالفطر والقصر؟ فيه نزاع: فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أنه لا يجوز له القصر والفطر].
قال الرملي في "نهاية المحتاج": [إذ مشروعية الترخص في السفر للإعانة، والعاصي لا يعان؛ لأن الرخص لا تناط بالمعاصي].
قال ابن حجر الهيتمي في "المنهج القويم": [بأن يقصد محلًا لفعلِ محرَّمٍ، وهذا هو العاصي بالسفر، بخلاف من عرضت له معصية وهو مسافر, فارتكبها، وهذا هو العاصي في السفر].
أما إن غلب على ظنك أنها ذاهبة لأجل أن تشرب الدخان عندها، فهذا الأصل فيه: أن في إيصالِها إعانةً على معصية، فلا تطعها، واعتذر عن ذلك، لكن بلين ورفق، ولو بأن تتحايل عليها دون كذب، وناصحها في ذلك، فإن لم تمتثل فحسابها على الله، وإليه مرجع الجميع، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وهذه قاعدة بينها قوله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {لقمان:15}.
ومن المصاحبة بالمعروف طاعتهما في المعروف، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف» متفق عليه. وقد قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {المائدة:2}.
لكن إن علمتَ أن والدتك ستذهب لا محالة مع سائق أجنبي بلا مَحرمٍ، أو غلب على ظنكَ ذلك، ولا تستطيع منعها، فأوصلها أنت، وذلك لأن في إيصالك إياها حينئذ تقليلًا من معصيتها، لا سيما إن لم تتيقن أنها ستدخن هناك، ولا غلب على ظنك، إذ هي بذهابها مع الأجنبي ترتكب مفسدة أعظمَ من مفسدة إيصالك إياها، وتضم معصية إلى معصية، وقد سئل الشيخ/ عبد الرحمن البراك: إذا كانت عباءة الأم مخصرة، هل يجوز تلبية طلبها في الذهاب بها إلى السوق؟ فأجاب: إذا كانت والدتك ستذهب إلى السوق على كل حال، سواء ذهبت بها أم لم تذهب, وإذا امتنعت من الخروج معها ستذهب منفردة؛ فعليك في هذه الحال أن تذهب بها إلى السوق حفاظا عليها، وتقليلا للمنكر بقدر الإمكان والاستطاعة. اهـ. من موقع الإسلام سؤال وجواب.
وقد يكون ذلك أدعى لقبولها نُصحك، واستجابتِها لتوجيهك في أثناء الطريق، فإنها إذا رأت بِرَّك بها, وحسنَ تعاملك معها في النصيحة، فذلك أحرى أن تستمع وتستجيب، ولعل ذلك من الحكمة, ومن الموعظة الحسنة التي ذكر اللهُ في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {النحل:125}.
والله أعلم.