السؤال
كيف نجمع بين قول مالك بن دينار: "إذا لم يكن في القلب حزن خرب، كما إذا لم يكن في البيت ساكن يخرب"، وقول أحدهم: "ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن"، وأن السلف، والصالحين كانوا يبكون ويحزنون، كما في سيرهم، فكيف نجمع بين هذا وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الحزن، وكلام ابن القيم عن الحزن في الفتوى رقم: 242674؟
السؤال الثاني: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (...وابكِ على خطيئتك...) هل يدخل فيه الذنوب التي تبنا منها؟ وإذا كان نعم، فما الحكمة من ذلك؟ وهل هذا الحديث هو أمر بالحزن؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، والعجز، والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال.
وروى أحمد عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصاب أحداً قط هَم، ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي، إلا أذهب الله همه، وحزنه، وأبدله مكانه فرجًا، قال: فقيل يا رسول الله: ألا نتعلمها؟ فقال بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
ولم نطلع على نص يأمر بالحزن، ولا يمدحه، وإنما اطلعنا على ما يفيد النهي عنه، كما في قوله تعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {آل عمران:139}، وقوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {التوبة:40}، وقوله تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ {النحل:127}، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {القصص:7}
وقد جاء بعض ما يدل على مدح ما كان سببًا للحزن، كقراءة القرآن بتدبر، وما كان بسبب ابتلاء أصابه بغير اختياره، أو كان بسبب تقصيره في طاعة، أو وقوع في معصية، فحزن على تفريطه في جنب الله تعالى، وهذا هو الذي ينبغي أن يحمل عليه ما ورد عن السلف، فقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكًيا محزونًا حكيمًا حليمًا عليمًا سكيتًا، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون جافيًا، ولا غافلًا، ولا صخابًا، ولا صياحًا، ولا حديدًا. اهـ.
وفي طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم: اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين؛ ولهذا لم يأْمر الله به في موضع قط، ولا أَثنى عليه، ولا رتب عليه جزاء، ولا ثوابًا، بل نهى عنه في غير موضع، كقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، وقال تعالى: {فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا} [التوبة: 40]، فالحزن هو بلية من البلايا، التي نسأَل الله دفعها وكشفها؛ ولهذا يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحزَن} [فاطر: 34]، فحمده على أن أذهب عنهم تلك البلية، ونجاهم منها.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللَّهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، والعجز، والكسل، والجبن، والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال"، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم من ثمانية أشياء، كل شيئين منها قرينان: فالهم والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم، فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضي أثر الحزن، وإن كان مصدره خوف الآتي أثر الهم، والعجز والكسل قرينان، فإن تخلف مصلحة العبد، وبعدها عنه إن كان من عدم القدرة، فهو عجز، وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل، والجبن والبخل قرينان، فإن الإحسان يفرح القلب، ويشرح الصدر، ويجلب النعم، ويدفع النقم، وتركه يوجب الضيم والضيق، ويمنع وصول النعم إليه، فالجبن ترك الإحسان بالبدن، والبخل ترك الإحسان بالمال، وضلع الدين، وغلبة الرجال قرينان، فإن القهر والغلبة الحاصلة للعبد إما منه، وإما من غيره، وإن شئت قلت: إما بحق، وإما بباطل من غيره.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه؛ وذلك لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10]، فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه، وسيره، وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض، والألم، ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأمورًا بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات، ولكن يحمد في الحزن سببه، ومصدره، ولازمه، لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه، وتقصيره في خدمة ربه وعبوديته، وأما أن يحزن على تورّطه في مخالفته، ومعصيته، وضياع أيامه وأوقاته.
وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه، وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتًا لم يحس بذلك، ولم يحزن، ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكن الحزن لا يجدي عليه، فإنه يضعفه كما تقدم، بل الذي ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته في السفر، فجلس في الطريق حزينًا كئيبًا، يشهد انقطاعه، ويحدث نفسه باللحاق بالقوم، فكلما فتر وحزن حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع، فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين، وأخص من هذا الحزن حزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجده في سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك، ولا سيما في ابتداء أمره، فالأول حزن على التفريط في الأعمال، وهذا حزن على نقص حاله مع الله، وتفرقة قلبه، وكيف صار ظرفًا لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده.
وأخص من هذا الحزن حزنه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه، كيف هو خال من محبة الله؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله؟ فهذا حزن الخاصة، ويدخل في هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده من خاطر، أو إرادة، أو شاغل من خارج.
فهذه المراتب من الحزن لا بد منها في الطريق، ولكن الكيس من لا يدعها تملكه، وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه، وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به، فأَورثها الحزن، وإن كانت نفسًا كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن علمت منه مخرجًا فكرت في طريق ذلك المخرج وأسبابه، وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت في عبودية الله فيه، وكان ذلك عوضًا لها من الحزن، فعلى كل حال لا فائدة لها في الحزن أصلًا، والله أعلم.
وقال بعض العارفين: ليست الخاصة من الحزن في شيء، وقوله -رحمه الله-: "معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة" كلام في غاية الحسن، فإن من عرف الله أحبه، ولا بد، ومن أحبه، انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا؛ ولهذا قال تعالى حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه أبي بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأَي شيء يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]، فالفرح بفضله، ورحمته تبع للفرح به سبحانه، فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به: من حبيب، أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك، يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة، والبهجة، فيظهر سرورها في قلبه، ونضرتها في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقّاهم الله نضرة وسرورًا.
فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذي شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم.
تلك المكارم لا قعبانِ من لبن شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا اهـ
وأما البكاء على الذنب، فالمراد به الندم عليه فقد جاء في تحفة الأحوذي: (وابك على خطيئتك) قال الطيبي: من بكى معنى الندامة، وعداه بعلى، أي: اندم على خطيئتك باكيًا. اهـ.
وهذا الندم مطلوب كلما تذكر العبد ذنبه، قال ابن القيم في مدارج السالكين: فَأَمَّا النَّدَمُ: فَإِنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إِلَّا بِهِ؛ إِذْ مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى الْقَبِيحِ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِهِ، وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْنَدِ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ .. اهـ
وقد ناقش ابن القيم ـ رحمه الله ـ مسألة نسيان الذنب وتذكره وأيهما أولى، ثم قال: وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَحَسَّ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ حَالَ الصَّفَاءِ غَيْمًا مِنَ الدَّعْوَى، وَرَقِيقَةً مِنَ الْعجبِ، وَنِسْيَانِ الْمِنَّةِ، وَخَطَفَتْهُ نَفْسُهُ عَنْ حَقِيقَةِ فَقْرِهِ وَنَقْصِهِ، فَذِكْرُ الذَّنْبِ أَنْفَعُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَتِهِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَكَمَالَ افْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَفَنَائِهِ بِهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ، وَقَدْ خَالَطَ قَلْبَهُ حَالُ الْمَحَبَّةِ، وَالْفَرَحِ بِاللَّهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَشُهُودِ سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَحِلْمِهِ، وَعَفْوِهِ، وَقَدْ أَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الذَّنْبِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعُ، فَإِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ الْجِنَايَةِ تَوَارَى عَنْهُ ذَلِكَ، وَنَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا مِنْ حَسَدِ الشَّيْطَانِ لَهُ، أَرَادَ أَنْ يَحُطَّهُ عَنْ مَقَامِهِ، وَسَيَّرَ قَلْبَهُ فِي مَيَادِينِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّوْقِ إِلَى وَحْشَةِ الْإِسَاءَةِ، وَحَصْرِ الْجِنَايَةِ. انتهى.
والله أعلم.