السؤال
قال تعالى يلوم نبيه -صلى الله عليه وسلم- لحزنه على الكافرين عندما أبوا أن يؤمنوا: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)، فهل يحرم الحزن على العصاة من باب الشفقة عليهم؟
وجزاكم الله خيرًا.
قال تعالى يلوم نبيه -صلى الله عليه وسلم- لحزنه على الكافرين عندما أبوا أن يؤمنوا: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)، فهل يحرم الحزن على العصاة من باب الشفقة عليهم؟
وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذه الآية اختلف أهل التفسير في المراد منها، هل هي للإشفاق عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبخع نفسه -أي: يهلكها- لعدم إيمانهم به أم هي للنهي أم هي للاستفهام الإنكاري؟ وقد رجح العلامة الشنقيطي -رحمه الله- أنها للنهي فقال: وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى «لعل» أن المراد بها في الآية النهي عن الحزن عليهم. انتهى.
وأما الحزن على عصاة المسلمين من باب الشفقة عليهم: فلا يحرم إذا لم يقترن بالحزن محرم، بل قد يثاب على ذلك لا من جهة الحزن، بل من جهة حب الخير للمسلمين وبغض الشر لهم؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: وَأَمَّا " الْحُزْنُ " فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ، بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَمْرِ الدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }، وَقَوْلِهُ: { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ }، وَقَوْلِهُ: { إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا }، وَقَوْلِهُ: { وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ }، وَقَوْلِهُ: { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ }، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجْلِبُ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُ مَضَرَّةً فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ، نَعَمْ لَا يَأْثَمُ صَاحِبُهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِحُزْنِهِ مُحَرَّمٌ كَمَا يَحْزَنُ عَلَى الْمَصَائِبِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ عَلَى دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا عَلَى حُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُ عَلَى هَذَا أَوْ يَرْحَمُ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى لِسَانِهِ"، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ". وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ }. وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالْحُزْنِ مَا يُثَابُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ، كَالْحَزِينِ عَلَى مُصِيبَةٍ فِي دِينِهِ، وَعَلَى مَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا؛ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الشَّرِّ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْحُزْنَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَفْضَى إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ مِنْ الصَّبْرِ وَالْجِهَادِ وَجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ نُهِيَ عَنْهُ، وَإِلَّا كَانَ حَسَبَ صَاحِبِهِ رُفِعَ الْإِثْمُ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ الْحُزْنِ، وَأَمَّا إنْ أَفْضَى إلَى ضَعْفِ الْقَلْبِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ كَانَ مَذْمُومًا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. انتهى.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني