السؤال
كلمة نعمة، نقف عليها مرة بالهاء الساكنة، ومرة بالتاء الساكنة، حسب الرسم، وهذا طبعا متلقى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهل كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الصحابة هكذا: كيف تقف على كذا؟ وكيف تبدأ بكذا، ويدخل معهم في هذه التفاصيل التجويدية الدقيقة؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الوقف موضعه، وصفته متلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال السيوطي في الإتقان: فِي مَعْرِفَةِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ بِهِ يُعْرَفُ كَيْفَ أَدَاءُ الْقِرَاءَةِ، وَالْأَصْلُ فيه ما أخرج النَّحَّاسُ... عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ ابن عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَتَنْزِلُ السُّورَةُ على محمد فَنَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا تَتَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ الْيَوْمَ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ، قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْأَوْقَافَ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ ـ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ثابت، أَخْرَجَ هَذَا الْأَثَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَعَنْ عَلَيٍّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ـ قَالَ: التَّرْتِيلُ تَجْوِيدُ الْحُرُوفِ وَمَعْرِفَةُ الْوُقُوفِ ـ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِ، ثم نقل عن ابن الجزري في النشر:... وَفِي كَلَامِ عَلِيٍّ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَصَحَّ ـ بَلْ تَوَاتَرَ ـ عِنْدَنَا تَعَلُّمُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَأَبِي جَعْفَرٍ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَحَدُ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ وَصَاحِبِهِ الْإِمَامِ نَافِعٍ، وَأَبِي عَمْرٍو وَيَعْقُوبَ وَعَاصِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَنُصُوصُهُمْ عَلَيْهِ مَشْهُورَةٌ فِي الْكُتُبِ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتَرَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلَفِ عَلَى الْمُجِيزِ ألا يحيز أحدا إلا بعد معرفته الْوَقْفَ وَالِابْتِدَاءَ، وَصَحَّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ـ فَلَا تَسْكُتْ حَتَّى تَقْرَأَ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ ـ قُلْتُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. انتهى.
بل ما هو أدق من ذلك كالمد علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، وانظر الفتوى رقم: 18034.
وقد بينا في الفتوى رقم: 103859، لماذا اختلف رسم المصحف وطريقة الوقف على هذه الكلمات؟.
والقراءة سنة متلقاة عن القراء لا تجوز مخالفتها بالاحتمال اللغوي، وإنما العمدة على الرواية، قال السيوطي في الحاوي: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَهَذَا أَثَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَرَادَ أَنَّ اتِّبَاعَ مَنْ قَبْلَنَا فِي الْحُرُوفِ سُنَّةٌ، وَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ إِمَامٌ وَلَا هِيَ مَشْهُورَةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ. انْتَهَى.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان: عن خارجة بن زيد، عن أبيه زيد بن ثابت، قال: القراءة سنة، قال سليمان: يعني ألا تخالف الناس برأيك في الاتباع، وبمعنى بلغني عن أبي سعيد في تفسير ذلك، قال: ونرى القراء لم يلتفتوا إلى مذاهب العربية في القراءة إذا خالف ذلك خط المصحف وزاد: يتبع حروف المصاحف عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها، وبسط الكلام في ذلك.
وعليه، فهذه الكلمات كلها نقلت إلينا بالرواية، وليس اجتهادا نحويا، وانظر الفتوى رقم: 69199.
وأما سؤالك: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقفهم على الدقائق التجويدية؟ فجوابه: أن العرب كانوا ينطقون بالكلام كله مجودا، ولما دخلت العجمة الألسنة احتاج الناس إلى تقعيد التجويد، فأخذوا يصفون ما كان ينطق به العرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم، وهم يقرءون بالتجويد سليقة، قال الشيخ محمد إسماعيل المقدم في فضائل الأذكار: فإن التجويد أصلاً من الصفات الأساسية للحروف في اللغة العربية، فالعرب ما نطقت حرفاً إلا مجوداً، حتى في الشعر وكلامهم العادي كان كله مجوداً، وليس ذلك من الأمور التحسينية أو التكميلية، بل هو من الصفات الذاتية للحروف العربية، فقولهم: وليل كموج البحر أرخى سدوله....علي بأنواع الهموم ليبتلي... وأمثاله، كانوا يقولونه مجوداً، وهكذا كانت هذه اللغة العربية، والأصل في اللغة العربية أن تنطق مجودة، لأن العرب ما نطقت كلاماً إلا مجوداً... ثم نقل عن الشيخ عطية الأجهوري في حاشيته على شرح الزرقاني للمنظومة البيقونية: فائدة: قال الإمام محمد بن محمد البديري الدمياطي في آخر شرحه لهذه المنظومة المباركة ما نصه: وأما قراءة الحديث مجودة كتجويد القرآن من أحكام النون الساكنة والتنوين والمد والقصر وغير ذلك، فهي مندوبة، كما صرح به بعضهم، لكن سألت شيخي خاتمة المحققين الشيخ علي الشبراملسي تغمده الله تعالى بالرحمة حالة قراءتي عليه صحيح الإمام البخاري عن ذلك، فأجابني بالوجوب شيخه أفتاه بوجوب التجويد، وذكر لي أنه رأى ذلك منقولاً في كتاب يقال له: الأقوال الشارحة في تفسير الفاتحة، وعلل الشيخ حينئذ ذلك بأن التجويد من محاسن الكلام، ومن لغة العرب، ومن فصاحة المتكلم، وهذه المعاني مجموعة فيه صلى الله عليه وسلم، فمن تكلم بحديثه صلى الله عليه وسلم فعليه مراعاة ما نطق به صلى الله عليه وسلم.
وقال العلامة القاسمي ـ رحمه الله تعالى ـ في قواعد التحديث: ولا يخفى أن التجويد من مقتضيات اللغة العربية، لأنه من صفاتها الذاتية، ولأن العرب لم تنطق بكلمة إلا مجودة، فمن نطق بها غير مجودة فكأنه لم ينطق بها، فليس هو في الحقيقة من محاسن الكلام، بل من الذاتيات له، فهو إذاً من طبيعة اللغة، لذلك من تركه وقع في اللحن الجلي، لأن العرب لا تعرف الكلام إلا مجوداً. انتهى.
والله أعلم.