الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا يجوز ترك الفرائض بحجة البحث عن الرزق

السؤال

أعلم أن الأرزاق بيد الله، وأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، ولكني أعاني من حالة نفسية سيئة للغاية بسبب فقري، خاصة أني حاصل على مؤهل جيد جدًّا، يؤهلني للعمل بمرتب مجز للغاية، ولم أكن أتوقع أن هذا سيكون مآلي بعد التخرج، والذي يزيد من حالتي النفسية سوءًا أن كل من أعرفهم من زملائي قبل التخرج أصبحوا في شركات كبيرة، وبسط الله لهم الرزق جميعًا، ودائمًا ما يدور بخاطري أني مثلهم تمامًا في المؤهل، بل كنت أكثر اجتهادًا وتحصيلًا أيام الدراسة في الجامعة، وأعلى تقديرًا، وغيرهم الكثير ممن هم دوني في المستوى التعليمي، وبدأ الوضع يزداد سوءًا أكثر بعد أن لاحظت أني أحقد عليهم، وأشعر بضيق في صدري شديد إذا سمعت أن أحدهم رزق بعمل أفضل، أعلم أن هذا لا يجوز، ولكن هذه طبيعة خلقني الله عليها، وكي لا أحسدهم، أو أتسبب في أذاهم أصبحت أقاطع كل من أشعر أنه أغنى مني، ولا أوده كالسابق، حتى لا يرى ما في من حقد، وحسد، ومرض قلب، وأدعو الله دائمًا أن يسل سخيمة قلبي، ولكن أجدها لا زالت موجودة –للأسف-، والله إني لأصبر كثيرًا، وأشكو إلى الله دائمًا من قتر الرزق، وأدعوه في الصلوات كلها، وأصلي الفجر، وقيام الليل بانتظام منذ أكثر من سنتين، وأتابع الصدقة رغم احتياجي الشديد لها -عسى الله أن يخلفني بذلك الفعل خيرًا كثيرًا- فقد قرأت أنها من أفضل الصدقات، وأحفظ القرآن، وأجتهد فيه، ومما يحز في نفسي أني رغم اجتهادي في الطاعة ومعصيتهم يرزقهم الله، ولا يرزقني، يراودني دائمًا وساوس من الشيطان أن أتخلى عن العبادة؛ لأنه ليس منها فائدة، وأركز في البحث عن الوظائف الأفضل من باب استغلال هذا الوقت في السعي النافع بدلًا من التواكل بكل الطرق، سواء كانت برضى من الله أم بسخط منه.
لا أعلم سببًا لما أنا فيه، ولكن أريد تفسيرًا يذهب ما أنا فيه من ضيق، فأنا بدأت أتعاطى أدوية نفسية بسبب هذا الموضوع.
وأسألكم الدعاء لي -عسى الله أن يرزقني بدعوة رجل صالح منكم-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنه لا يحصل الفلاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة إلا بتحقيق العبودية لله تعالى بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، ولا يجوز بحال ترك الفرائض التي أمر الله بها عباده بحجة البحث عن الرزق، والاشتغال بجمع حطام الدنيا، كما لا يجوز أن يُطلق على من عبد الله تعالى، وفعل ما أمره به مولاه أنه متواكل، بل إنه إذا جمع مع العبادة السعيَ في تحصيل الرزق الحلال من أسبابه المشروعة، ورجا الخير من الله، فإنه يكون متوكلًا على الله، والله يحب المتوكلين!

واحذر أن تكون ممن يتضجر، ويتسخط للفقر الذي نزل به، أو المرض الذي ألمَّ به، وينسى حين ذاك أنه غارق في نعم الله عليه، فهو يتمتع بنعمة الحياة، ونعمة البصر، وإلاَّ لكان أعمى يقاد في الطرقات، لا يهتدي سبيلًا، ونعمة السمع، وإلا لكان أصم يتحدث الناس بجواره، ولا يعقل ما يقولون، ونعمة العقل، وإلا لكان مجنونًا، يقذره الأقربون، ويلعب به الأطفال، ونعمة اللسان، وإلا لكان أبكم، لا يفصح عما يريد، ونعمة الهواء، والماء، والطعام، والمسكن، والأولاد، وكل شيء حوله، وصدق الله إذ يقول: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً {لقمان:20}، فإذا تذكر الإنسان هذه النعم هان عليه الخطب، وسهل عليه ما يجد من البلاء، إن وجد بالفعل؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ، وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عليكم.

فثق بالله تعالى، وأحسن الظن به، واعلم أن أقدار الله كلها خير، وإن كانت مؤلمة في ظاهرها، قال صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه. رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له. رواه مسلم، وغيره.

واسلك سبل زيادة الإيمان من استماع للقرآن، وقراءته بتدبر، ومن مداومة ذكر الله، ومن شهود مجالس العلم، والخير.

وعليك -أيها الأخ المبارك- أن تطرق باب الكريم سبحانه وتعالى في كل وقت، وحين، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق:2-3}، وجاء عن رسولنا صلى الله عليه وسلم قوله: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب. رواه أبو داود.

وعليك بالدعاء الذي يذهب الهموم، والغموم، وهو: لا إله إلا الله، العظيم الحليم، لا إله إلا الله، رب العرش العظيم، لا إله إلا الله، رب السماوات، ورب العرش الكريم، لا إله إلا الله، الحليم الكريم. متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: دعوة ذي النون -عليه السلام- إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له. رواه أحمد.

وتذكر أن الذي يكشف البلوى هو الله، فاعتصم به، وتوكل عليه، قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ {الأنبياء:83-84}.

وربنا سبحانه الرحيم الرحمن الكريم الرزاق لن يهلك عبده جوعًا إذا أقبل إليه، وسأله الرزق، وتضرع بين يديه، فهو سبحانه الذي كفل الأرزاق لعباده، ووعدهم بذلك، وعد كريم لا يبخل، وقدير لا يعجز، وعدًا أكده، وأقسم عليه، قال سبحانه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ {الذاريات:22-23}.

فما عليك إلا الأخذ بأسباب الرزق، والسعي في تحصيله، واللجوء إلى الله في ذلك، والرضا بما قسم لك، ولا يضرك ما فاتك بعد ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أصبح آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. رواه الترمذي.

وأخيرًا نحذرك -أيها الأخ الكريم- من أن تحسد زملاءك الذي فضَّلهم الله تعالى عليك في الرزق لحكمة يعلمها، أو أن يمتلئ قلبك حقدًا عليهم، فإن الحاسد يضر نفسه من وجوه:
1- اكتساب الذنوب؛ لأن الحسد حرام.
2- سوء الأدب مع الله؛ لأن حقيقة الحسد كراهية إنعام الله على عبده.
3- تألم قلبه من كثرة همه، وغمه.

واستمر في مجاهدة نفسك على التخلي عن الحسد، وإياك من التعلل بأن الله خلقك كذلك؛ فإن الله حرَّم الحسد، وأمر باجتنابه، والشرعُ لا يدفع بالقَدَر، بل يجب التزام الشرع؛ امتثالاً لأمر الله تعالى، وتحقيقًا للعبودية له سبحانه.

وانظر للأهمية الفتويين التالية أرقامهما: 73932، 126642.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني