الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم ترك الاستغفار لعدم االشعور بأثره أو فائدته

السؤال

أنا فتى ملتزم - ولله الحمد، قرأت في بعض المواقع الإسلامية أن الاستغفار سيد العبادات، فقررت ملازمة الاستغفار، ولله الحمد أدمنت الاستغفار، وأنا الآن أستغفر أكثر من 10000 مرة في اليوم، لكني لا أرى أي خير من استغفاري! حتى مللت الاستغفار، وضجرت منه.
وأنا متردد في أمري أأكمل في الاستغفار أم أتركه؟! لذلك لجأت إليكم كي تفيدوني -يرحمكم الله-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الاستغفار من أفضل الأذكار بعد التوحيد، وقد أمر الله تعالى بكلمة التوحيد والاستغفار في قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ {محمد:19}. وقد وعد المستغفرين بالرحمة والحياة الطيبة والخير الكثير في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {البقرة:199}، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء:106}، وقوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ {هود:3}، وفي قوله تعالى إخبارًا عن هود أنه قال: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ {هود:52}. وفي قوله إخبارًا عن نوح أنه قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً {نوح:10ـ12}.

قال القرطبي عند هذه الآية: قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا، فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ ثم قرأ {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا * يرسل السماء عليكم مدرارًا} ....

وشكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا. فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئًا؛ إن الله تعالى يقول في سورة نوح: (استغفروا ربكم إنه كان غفارًا * يرسل السماء عليكم مدرارًا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا). انتهى من تفسير القرطبي (18 / 301 - 303) باختصار.

وقد روي الإكثار من الاستغفار والحضّ عليه عن جمع من السلف.

وقال ابن القيم في شفاء العليل: في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة. ولما سمع أبو هريرة هذا من النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عنه: إني لأستغفر الله في اليوم والليلة اثني عشر ألف مرة بقدر ديتي. ثم ساقه من طريق آخر وقال: بقدر ذنبه. اهـ.

وقال ابن رجب في جامع العلوم الحكم: وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، وأينما كنتم؛ فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة ... إلى أن قال ابن رجب: قال أبو هريرة إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ألف مرة، وذلك على قدر ديتي. وقالت عائشة -رضي الله عنها-: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا. قال أبو المنهال: ما جاور عبد في قبره من جار أحب إليه من استغفار كثير.

وبالجملة: فدواء الذنوب الاستغفار، وروينا من حديث أبي ذر مرفوعًا: إن لكل داء دواء، وإن دواء الذنوب الاستغفار. قال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار. وقال بعضهم: إنما معول المذنبين البكاء والاستغفار، فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار. قال رباح القيسي: لي نيف وأربعون ذنبًا قد استغفرت الله لكل ذنب مائة ألف مرة، وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاته لا تجاوز ستًّا وثلاثين، فاستغفر الله لكل زلة مائة ألف مرة، وصلى لكل زلة ألف ركعة، وختم في كل ركعة منها ختمة، قال: ومع ذلك فإني غير آمن من سطوة ربي أن يأخذني بها، فأنا على خطر من قبول التوبة.

ومن زاد اهتمامه بذنوبه فربما تعلق بأذيال من قلت ذنوبه، فالتمس منهم الاستغفار، وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار، ويقول: إنكم لم تذنبوا. وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكتاب: قولوا: اللهم اغفر لأبي هريرة، فيؤمن على دعائهم. انتهى.

وأما عن وجود الأثر لما تقوم به من الاستغفار: فإن العبد لا يترك الطاعة بسبب عدم ملاحظته لوجود ثوابها، فإنه قد يكون أثرها موجودًا ولا ينتبه له الشخص؛ فقد يعطيه الله تعالى من نعم العافية ودفع البلاء ما لا يكون منتبهًا له، وقد يدعو بعضهم ولا يجد الأثر بسبب عدم أو ضعف اليقين بالدعاء؛ فقد مثّل ابن القيم -رحمه الله- في المدارج الدعاء بالسيف، وذكر أن قوة تأثير الدعاء بحسب قوة إيمان الداعي، كما أن تأثير ضربة السيف بحسب قوة ساعد الضارب.

فلذا ينبغي أن تواظب على الاستغفار مع حضور القلب واستشعار الذنب، والله نسأل أن يعيننا وإياك على ذكره وشكره وحسن عبادته.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني