الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحلف بالمخلوق لا يجوز، وهو نوع من الشرك بالله، كما روى البخاري عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت.
وفي سنن أبي داود عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف لا والكعبة، فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد أشرك.
وقد تكلم الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب على التوفيق بين هذه الأحاديث وبين الأحاديث التي يفهم منها الجواز ورجح منع الحلف بها وعدم التفريق بين الحلف وبين التأكيد، وعدم التفريق بين إرادة القسم وعدم إرادته فقال في تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد: وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله، أو بصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره، قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع ـ ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين: إن ذلك على سبيل كراهة التنزيه، فإن هذا قول باطل، وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كفر أو شرك، بل ذلك محرم، ولهذا اختار ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن يحلف بالله كاذبا، ولا يحلف بغيره صادقا، فهذا يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب، مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل، فدل ذلك أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات..... فإن قيل: قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الإسلام فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق ـ رواه البخاري. وقال للذي سأله: أي الصدقة أفضل؟ أما وأبيك لتنبأنه ـ رواه مسلم، ونحو ذلك من الأحاديث، قيل: ذكر العلماء عن ذلك أجوبة:
أحدها: ما قاله ابن عبد البر في قوله: أفلح وأبيه إن صدق ـ هذه اللفظة غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها إسماعيل بن جعفر: أفلح والله إن صدق ـ قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ: أفلح وأبيه ـ لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح، ولم تقع في رواية مالك أصلا، وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله: وأبيه ـ من قوله: والله ـ وهذا جواب عن هذا الحديث الواحد فقط، ولا يمكن أن يجاب به عن غيره.
الثاني: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم به، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ذكره، قلت: هذا جواب فاسد، بل أحاديث النهي عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد، ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ حلف مرة باللات والعزى، ويبعد أن يكون أراد حقيقة الحلف بهما ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك، ومع هذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم، غاية ما يقال: أن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه، أما أن يكون ذلك أمرا جائزا للمسلم أن يعتاده، فكلا، وأيضا: فهذا يحتاج إلى نقل أن ذلك كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم، وأن النهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك؟
الثالث: أن مثل ذلك يقصد به التأكيد لا التعظيم، وإنما وقع النهي عما يقصد به التعظيم، قلت: وهذا أفسد من الذي قبله، وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال، فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له؟ فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه، وأيضا: فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق، وأيضا: فهذا يحتاج إلى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معدوم.
الرابع: أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله، فهو قبل النسخ، ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله، وهذا الجواب ذكره الماوردي، قال السهيلي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك، قال السهيلي: ولا يصح ذلك، وكذلك قال غيرهم، وهذا الجواب هو الحق، يؤيده أن ذلك كان مستعملا شائعا، حتى ورد النهي عن ذلك، كما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ـ رواه البخاري ومسلم، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ـ وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: ولا تحلفوا بآبائكم ـ رواه مسلم، وعن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ، ولا تعد ـ رواه النسائي، وابن ماجه، وهذا لفظه، وفي هذا المعنى أحاديث، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله، فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك.... اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق ـ فهذه الكلمة: وأبيه ـ اختلف الحفاظ فيها: فمنهم من أنكرها، وقال: لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك، فلا إشكال في الموضوع، لأن المعارض لا بد أن يكون قائماً، وإذا لم يكن المعارض قائماً فهو غير مقاوم ولا يلتفت إليه, على القول بأنها ثابتة فإن الجواب على ذلك: أن هذا من المشكل، والنهي عن الحلف بغير الله من المحكم، فيكون لدينا محكم ومتشابه، وطريق الراسخين في العلم في المحكم والمتشابه أن يدعوا المتشابه ويأخذوا بالمحكم، قال الله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ـ ووجه كونه متشابهاً أن فيه احتمالات متعددة:
1ـ قد يكون هذا قبل النهي.
2ـ قد يكون هذا خاصاً بالرسول، عليه الصلاة والسلام، لبعد الشرك في حقه.
3ـ قد يكون هذا مما يجري على اللسان بغير قصد.
ولما كانت هذه الاحتمالات وغيرها واردة على هذه الكلمة ـ إن صحّت عن الرسول عليه الصلاة والسلام ـ صار الواجب علينا أن نأخذ بالمحكم وهو النهي عن الحلف بغير الله، ولكن يقول: بعض الناس إن الحلف بغير الله قد جرى على لساني ويصعب علي أن أدعه، فما الجواب؟ نقول: إن هذا ليس بحجة، بل جاهد نفسك على تركه والخروج منه، وحاول بقدر ما تستطيع أن تمحو من لسانك هذه الكلمة، لأنها شرك، والشرك خطره عظيمٌ ولو كان أصغر، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً، قال شيخ الإسلام: وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة.
والله أعلم.