الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن كنت تقصدين إقامة دعوى على أخيك، فهذا لا إشكال فيه، ولا سيما إذا كان أبوك قد توفي، ففي هذه الحال يؤخذ ما لك على أبيه قبل قسمة التركة.
وأما إن كنت تقصدين رفع دعوى على أبيك، فهذا محل خلاف ونظر، فإن أكثر أهل العلم قد نصوا على أن الوالد لا يحبس في دَين ولده، بل قد نص بعضهم على أن الولد ليس له مطالبة أبيه بماله الذي له عليه سواء من دين أم إتلاف أم غير ذلك، وليس له إحضاره لمجلس الحكم، قال الحجاوي في الإقناع: ليس لولد، ولا لورثته مطالبة أبيه بدين قرض، ولا ثمن مبيع، ولا قيمة متلف، ولا أرش جناية، ولا ما انتفع به من ماله، ولا أن يحيل عليه بدينه، ولا بغير ذلك إلا بنفقته الواجبة، زاد في الوجيز: وحبسه عليها... ويثبت له في ذمته الدين، ونحوه، قال في الموجز: لا يملك إحضاره في مجلس الحكم، فإن أحضره فادعى فأقر أو قامت بينة، لم يحبس. اهـ.
قال البهوتي في شرحه كشاف القناع: لما روى الخلال أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينًا عليه، فقال: أنت ومالك لأبيك ـ ولأن المال أحد نوعي الحقوق، فلم يملك مطالبة أبيه به، كحقوق الأبدان. اهـ.
وهذا الحديث رواه ابن عدي في الضعفاء، في ترجمة أبي مطيع معاوية بن يحيى الأطرابلسي، وقال: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه. اهـ.
وعدم المطالبة بالدَّين هو مذهب الحنابلة، خلافًا للجمهور، قال ابن قدامة في المغني: ليس للولد مطالبة أبيه بدين عليه، وبه قال الزبير بن بكار، وهو مقتضى قول سفيان بن عيينة، وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: له ذلك؛ لأنه دَين ثابت، فجازت المطالبة به، كغيره، ولنا: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينًا عليه، فقال: أنت ومالك لأبيك ـ رواه أبو محمد الخلال بإسناده، وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات بإسناده، أن رجلًا استقرض من ابنه مالًا، فحبسه، فأطال حبسه، فاستعدى عليه الابن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وذكر قصته في شعر، فأجابه أبوه بشعر أيضًا، فقال علي -رضي الله عنه-:
قد سمع القاضي ومن ربي الفهم ... المال للشيخ جزاء بالنعم ... يأكله برغم أنف من رغم... من قال قولا غير ذا فقد ظلم ... وجار في الحكم وبئس ما جرم.
قال الزبير: إلى هذا نذهب، ولأن المال أحد نوعي الحقوق، فلم يملك مطالبة أبيه بها، كحقوق الأبدان، ويفارق الأب غيره، بما ثبت له من الحق على ولده، وإن مات الابن فانتقل الدَّين إلى ورثته، لم يملكوا مطالبة الأب به؛ لأن موروثهم لم يكن له المطالبة، فهم أولى، وإن مات الأب، رجع الابن في تركته بدينه؛ لأن دينه لم يسقط عن الأب، وإنما تأخرت المطالبة. اهـ.
وفي حديث الخلال، وابن عدي، وكذلك حديث الزبير بن بكار، دلالة على جواز مخاصمة الولد لوالده عند الحاكم؛ لعدم الإنكار ابتداء على الولد الذي جاء بأبيه يخاصمه في مجلس الحكم، ويدل عليه أيضًا ما نقله ابن حزم في المحلى، حيث قال: روينا من طريق ابن مسعود عن عمر بن الخطاب أنه أتاه أب وابن، والابن يطلب أباه بألف درهم أقرضه إياها، والأب يقول: إنه لا يقدر عليها، فأخذ عمر بيد الابن فوضعها في يد الأب، فقال: هذا وماله من هبة الله لك، وعن علي بن أبي طالب نحو هذا، وأنه قضى بمال الولد للوالد، وجور من قال غير هذا... ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أنه خاصم أباه إلى الشعبي في مال له، فقال الشعبي لعبد الله: أجعلك ومالك له ـ يعني لولده. اهـ.
وقال البلقيني في فوائده على قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام: يُضبط ذلك ـ يعني العقوق المحرم للوالدين ـ بوجوه:
أحدها: أن يقال: ما عُدّ في العرف عقوقًا لهما، فهو عقوق.
الثاني: أن يقال: كل ما يؤذيهما مما يُتأذّى به عادةً وتعدَّى به الولد، فهو عقوق، وأخرجتُ بقولي: وتعدَّى به الولد: طلبَه حَبسَهما في دَينٍ له، فإن من يحبسه الله، لا يعدّه به عاقًّا، لعدم تعدّيه. اهـ.
ونقل خلاصة ذلك الصنعاني في سبل السلام، ولفظه: وكذلك لو كان مثلًا على الأبوين دَين للولد، أو حق شرعي فرافعه إلى الحاكم، فلا يكون ذلك عقوقًا، كما وقع من بعض أولاد الصحابة شكاية الأب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في احتياجه لماله، فلم يعد النبي صلى الله عليه وسلم شكايته عقوقًا. اهـ.
ولكنه لم يقره، بل تعقبه، فقال: في هذا تأمل، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك ـ دليل على نهيه عن منع أبيه عن ماله، وعن شكايته. اهـ.
وخلاصة ما سبق أن مجرد مطالبة الولد لوالده بدَينه، محل خلاف بين أهل العلم، فضلًا عن رفعه لمجلس القضاء، فضلًا عن معاقبته في حق ولده بالحبس، أو غيره، فهذا يمنعه جمهور أهل العلم، وهو المفتى به في المعتمد من المذاهب الأربعة ـ أعني حبس الوالد بدَين الولد ـ.
وأما مجرد الادعاء لإثبات الحق، وإلزام الوالد بأدائه، فهذا محل نظر واجتهاد، وقد يختلف حكمه من حال إلى حال، بحسب نوع الدعوى، وظلم الوالد، وغنى الولد، أو حاجته، ويدل على ذلك حديث معن بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال: كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن. رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: فيه جواز التحاكم بين الأب والابن، وأن ذلك بمجرده لا يكون عقوقًا. اهـ.
وذكر العيني في عمدة القاري نحوه، وزاد: على أن مالكًا ـ رحمه الله ـ كره ذلك ولم يجعله من باب البر، واختياري هذا. اهـ.
وعلى ذلك؛ فإن الأفضل والأورع للسائلة ألا تلجأ إلى القضاء، بل توسط عند أبيها أهل الخير والحكمة من الأقارب، والأرحام، ونحوهم؛ ليترفقوا به، ويحملوه على إرجاع ما لها عنده باختياره، فإن لم يُجدِ ذلك نفعًا، ولم تصبر ورفعت أمرها للقاضي، فلفعلها هذا مستند يمكن الاعتماد عليه؛ وذلك لمجرد إثبات الحق، والإلزام به، لا لعقوبة الوالد بالحبس، أو غيره، فإن هذا لا يجوز.
ولا يخفى أن إقامة الدعوى لا تنحصر فائدتها في إنزال العقوبة، بل لها فوائد أخرى أشار إليها القاضي زكريا الأنصاري في أسنى المطالب بقوله: فائدتها لا تنحصر في ذلك، بل من فوائدها: إحضاره مجلس الحكم، وتفسيقه إذا امتنع، بدليل أن للولد مطالبة والده بدَينه، وليس له حبسه. اهـ.
والله أعلم.