الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالتورية والتعريض في الكلام يختلف حكمه بحسب حال المتخاطبين، ثم بحسب الحاجة والمصلحة، وليس من دين الله تعالى التوصل بالتورية إلى ظلم الناس، أو تضييع حقوقهم، أو الإضرار بهم بغير حق، قال النووي في باب التعريض والتورية، من كتاب الأذكار: اعلم أن هذا الباب من أهم الأبواب، فإنه مما يكثر استعماله، وتعم به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأمله، ويعمل به، وقد قدمنا في الكذب من التحريم الغليظ، وما في إطلاق اللسان من الخطر، وهذا الباب طريق إلى السلامة من ذلك، واعلم أن التورية والتعريض معناهما: أن تطلق لفظًا هو ظاهر في معنى، وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، وهذا ضرب من التغرير والخداع، قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه، وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل، أو دفع حق، فيصير حينئذ حرامًا، هذا ضابط الباب. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: الضابط أن كل ما وجب بيانه، فالتعريض فيه حرام؛ لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق، والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على الإنسان، والعقود بأسرها، ووصف المعقود عليه، والفتيا، والتحديث، والقضاء، إلى غير ذلك، وكل ما حرم بيانه، فالتعريض فيه جائز، بل واجب إن اضطر إلى الخطاب، وأمكن التعريض فيه، كالتعريض لسائل عن معصوم يريد قتله، وإن كان بيانه جائزًا، أو كتمانه جائزًا، وكانت المصلحة الدينية في كتمانه، كالوجه الذي يُراد عزوه، فالتعريض أيضًا مستحب هنا، وإن كانت المصلحة الدنيوية في كتمانه، فإن كان عليه ضرر في الإظهار، والتقدير أنه مظلوم بذلك الضرر، جاز له التعريض في اليمين وغيرها، وإن كان له غرض مباح في الكتمان، ولا ضرر عليه في الإظهار، فقيل: له التعريض أيضًا، وقيل: ليس له ذلك، وقيل: له التعريض في الكلام دون اليمين ...
وفي الجملة؛ فالتعريض مضمونه أنه قال قولًا فهم منه السامع خلاف ما عناه القائل، إما لتقصير السامع في معرفة دلالة اللفظ، أو لتبعيد المتكلم وجه البيان، وهذا غايته أنه سبب في تجهيل المستمع باعتقاد غير مطابق، وتجهيل المستمع بالشيء إذا كان مصلحة له كان عمل خير معه، فإن من كان علمه بالشيء يحمله على أن يعصي الله سبحانه كان ألا يعلمه خيرًا له، ولا يضره مع ذلك أن يتوهمه بخلاف ما هو، إذا لم يكن ذلك أمرًا يطلب معرفته، إن لم يكن مصلحة له، بل مصلحة للقائل كان أيضًا جائزً؛ لأن علم السامع إذا فوت مصلحة على القائل كان له أن يسعى في عدم علمه، وإن أفضى إلى اعتقاد غير مطابق في شيء، سواء عرفه أو لم يعرفه، فالمقصود بالمعاريض فعل واجب، أو مستحب، أو مباح، أباح الشارع السعي في حصوله، ونصب سببًا يفضي إليه أصلًا وقصدًا، فإن الضرر قد يشرع للإنسان أن يقصد دفعه، ويتسبب في ذلك، ولم يتضمن الشرع النهي عن دفع الضرر. اهـ.
وقال بعد ذلك: فثبت أن التعريض المباح ليس من المخادعة لله سبحانه في شيء، وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق، فما كان من التعريض مخالفًا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحًا إلا عند الحاجة، وما لم يكن كذلك كان جائزًا إلا عند تضمن مفسدة. اهـ.
ونقل ابن القيم معنى ذلك عنه في إعلام الموقعين وقال: ومثل هذا ما لو كان له غرض مباح في التعريض، ولا حذر عليه في التصريح، والمخاطب لا يفهم مقصوده، وفي هذا ثلاثة أقوال للفقهاء، وهي في مذهب الإمام أحمد:
أحدها: له التعريض؛ إذ لا يتضمن كتمان حق، ولا إضرارًا بغير مستحق.
والثاني: ليس له ذلك، فإنه إيهام للمخاطب من غير حاجة إليه، وذلك تغرير، وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب، وقد يترتب عليه ضرر به.
والثالث: له التعريض في غير اليمين... اهـ.
وقال قبل ذلك: إنما تجوز المعاريض إذا كان فيه تخلص من ظالم، كما عرض الخليل بقوله: هذه أختي ـ فإذا تضمنت نصر حق، أو إبطال باطل، كما عرض الخليل بقوله: إني سقيم {الصافات: 89}، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا {الأنبياء: 63}، وكما عرض الملكان لداود بما ضرباه له من المثال الذي نسباه إلى أنفسهما، وكما عرض النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: نحن من ماء ـ وكما كان يوري عن الغزوة بغيرها لمصلحة الإسلام والمسلمين، إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا، كما عرض صلى الله عليه وسلم بقوله: إنا حاملوك على ولد الناقة... وهذه المعاريض، ونحوها من أصدق الكلام، فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة؟ اهـ.
ويتلخص من ذلك أن التورية إنما تشرع عند الحاجة، بما لا يضر بالمخاطب، ولا يضيع حقه، قال النووي في شرح مسلم: شرط المعاريض المباحة ألا يضيع بها حق أحد. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد... مشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها، وشرط جوازها ألا تبطل حقًّا لمسلم. اهـ.
ونقل عن ابن بطال قوله: محل الجواز فيما يخلص من الظلم، أو يحصل الحق، وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق، أو تحصيل الباطل، فلا يجوز، وأخرج الطبري من طريق محمد بن سيرين قال: كان رجل من باهلة عيونًا ـ أي كثير الإصابة بالعين ـ فرأى بغلة لشريح فأعجب بها، فخشي شريح عليها فقال: إنها إذا ربضت لا تقوم حتى تقام، فقال: أف أف، فسلمت منه، وإنما أراد شريح بقوله: حتى تقام ـ أي حتى يقيمها الله تعالى. اهـ.
فعلى السائل أن يبين هذه الأحكام لزوجته، ويأمرها بالتوبة إلى الله تعالى إن كانت قد وقعت في شيء من الكذب، أو التعريض في غير محله، ويتعاهدها بالنصح، والموعظة الحسنة.
والله أعلم.