الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما السبيل لزيادة الإيمان والثبات عند الفتن؟

السؤال

ما السبيل لزيادة الإيمان، والثبات عند الفتن، وعدم الخوف من أحد إلا الله؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الله تعالى يبتلي النفوس بالخير والشر حتى يتبين الصابرون، ويفتضح الضعفاء والمنافقون، قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}.

والفتن التي يبتلي الله بها عباده في الدنيا متنوعة، فمنها فتنة المال، ومنها فتنة الجاه، ومنها الفتنة بالنساء، ومنها الفتنة بالزوجة والأولاد، ومنها فتنة التعرض للظلم والطغيان والاضطهاد، وكثير من الناس لا يثبت أمام هذه الفتن، فتزل قدمه، ويرسب في الاختبار، فإذا ابتلي بالمال واغتنى بعد الفقر والحرمان طغى ونسي الله، وارتكب المحرمات، وإذا ابتلي بالجاه والمنصب تكبر على الفقراء وأصحاب الحاجات، وإذا ابتلي بالنساء قارف الفاحشة، وإذا ابتلي بزوجة غير مستقيمة أركسته في الذنوب والمعاصي، وإذا ابتلي بجبار يظلمه ويضطهده، ويطغى عليه ويعذبه جعل فتنة الناس كعذاب الله، فإذا كانت الفتن بهذه الخطورة، كان الواجب على المسلم الحازم أن يأخذ بأسباب الاستقامة، ووسائل الثبات فيها، ودونك طائفة منها:

1ـ الاشتغال بكتاب الله تعالى تلاوة وحفظًا وتدبرًا، فالقرآن شفاء للقلوب من أمراضها، وتدبره بعد قراءة تفسيره يعين المؤمن على معرفة طرق مواجهة الفتن المتكاثرة، وقد ذكر الله تعالى أن القرآن من وسائل الثبات في الأمر، فقال سبحانه: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا {الفرقان:32}، وقد ذكرنا إرشادات تعين على تدبر القرآن الكريم في الفتوى رقم: 30338.

2ـ التقرب إلى الله تعالى بأنواع العبادات، فالمؤمن صاحب العبادة المحافظ على الفرائض المؤدي للنوافل يثبته الله، ويؤيده بروح منه، ويمده بمدد من عنده، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا {النساء:66}.

وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ. رواه البخاري.

وقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم المستقيمين على أمر الله تعالى في آخر الزمان بأن لهم أجرًا عظيمًا، فقال: إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أو منهم، قال: بل منكم. رواه الطبراني، وصححه الألباني.

3ـ الإكثار من الدعاء وسؤال الله تعالى، فقد لا يملك المؤمن من الأسباب في مواجهة الفتن أكثر من سلاح الدعاء، كقوله تعالى على لسان بعض أوليائه: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا {البقرة:250}، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا {آل عمران:8}.

وعَنْ أَنَسٍ ـ رضي الله عنه ـ أنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. رواه الترمذي.

فينبغي أن تكون هذه الأدعية وأمثالها ديدنًا للمؤمن، وحصنًا حصينًا يأوي إليه من الفتن، وانظر شروط إجابة الدعاء في الفتوى رقم: 11571.

4ـ مطالعة قصص الأنبياء وسير الصالحين، فقراءة أخبارهم، ومعرفة مواقفهم، والوقوف على أحوالهم، وتأمل أقوالهم وقت الفتن التي تعرضوا لها من أعظم الأسباب المعينة على مواجهة الفتن والثبات أمامها، قال الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ {هود:120}.

5ـ التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمر إليه سبحانه، فالتوكل على الله من أعظم المنازل والمقامات عند الله تعالى، بل هو علامة الإيمان، قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {المائدة:23}، وقال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {آل عمران:122}. ومن توكل على الله تعالى كفاه وهداه، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ {الطلاق:3}.

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتوكل، فقال: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ {النمل:79}. قال الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل.

ثم بين ـ رحمه الله ـ أحوال المتوكلين، فقال: فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابّه، وتنفيذ أوامره، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامة في نفسه، وحفظ حاله مع الله فارغًا عن الناس، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله من الرزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد، ونحو ذلك، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش.

وطريق التوكل هو الاعتماد على الله، وعِلم القلب بكفايته سبحانه وتعالى لعباده، مع التسليم، والرضى، والثقة بالله، والطمأنينة إليه سبحانه، وتعلق القلب به في كل حال، والبراءة من الحول والقوة إلا به، ولا ينافي هذا كله الأخذ بالأسباب.

6ـ صحبة الصالحين، فمما يشد أزر المسلم في استقامته ويعينه على التمسك بدينه ـ خصوصًا وقت الفتن ـ صحبةُ الأخيار وطلاب العلم، وقد قال النبي صلى عليه وسلم: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل. رواه أبو داود.

هذا، ولتقوية الخوف من الله تعالى في القلب ليكون أعظم من خوف الناس انظر الفتوى رقم: 127228، ولمعرفة أسباب زيادة الإيمان والتمسك بالدين انظر الفتويين: 10894، 121673.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني