الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل في الغيبة الحرمة؛ لنهي الله تعالى عنها في قوله: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا {الحجرات:12}، لكن تجوز غيبة الفاسق المجاهر بفسقه، فيما جاهر به من الفسق، دون غيره، كما جاء ذلك في الموسوعة الفقهية.
وقد سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا غِيبَةَ لِفَاسِقِ} وَمَا حَدُّ الْفِسْقِ؟ وَرَجُلٌ شَاجَرَ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: شَارِبُ خَمْرٍ، أَوْ جَلِيسٌ فِي الشُّرْبِ، أَوْ آكِلُ حَرَامٍ، أَوْ حَاضِرُ الرَّقْصِ، أَوْ السَّمَاعِ لِلدُّفِّ أَوْ الشَّبَّابَةِ: فَهَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ إثْمٌ؟
فَأَجَابَ: أَمَّا الْحَدِيثُ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ؟ اُذْكُرُوا بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ. وَفِي حَدِيثٍ آخَر: {مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، فَلَا غِيبَةَ لَهُ}، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْغِيبَةُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ، مِثْلَ الظُّلْمِ، وَالْفَوَاحِشِ، وَالْبِدَعَ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ... فَمَنْ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ، وَأَنْ يُهْجَرَ وَيُذَمَّ عَلَى ذَلِكَ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، فَلَا غِيبَةَ لَهُ. بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَنْبِهِ، مُسْتَخْفِيًا، فَإِنَّ هَذَا يُسْتَرُ عَلَيْهِ؛ لَكِنْ يُنْصَحُ سِرًّا، وَيَهْجُرُهُ مَنْ عَرَفَ حَالَهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَيَذْكُرُ أَمْرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يُسْتَشَارَ الرَّجُلُ فِي مُنَاكَحَتِهِ، وَمُعَامَلَتِهِ، أَوْ اسْتِشْهَادِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ فَيَنْصَحُهُ مُسْتَشَارُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: قَدْ خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ، وَمُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهَا: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ} فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ الْخَاطِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ. فَهَذَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ: أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ، اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ، يَحْذَرْهُ النَّاسُ. فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ النُّصْحِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَ الْمَرْأَةَ فِي دُنْيَاهَا، فَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ.
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ، وَيَرْتَكِبُ الْمُنْكَرَاتِ، وَقَدْ عَاشَرَهُ مَنْ يَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ دِينَهُ: بَيَّنَ أَمْرَهُ لَهُ لِتُتَّقَى مُعَاشَرَتُهُ.
وَإِذَا كَانَ مُبْتَدِعًا يَدْعُو إلَى عَقَائِدَ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَوْ يَسْلُكُ طَرِيقًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَيُخَافُ أَنْ يُضِلَّ الرَّجُلُ النَّاسَ بِذَلِكَ: بَيَّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ لِيَتَّقُوا ضَلَالَهُ، وَيَعْلَمُوا حَالَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ، وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا لِهَوَى الشَّخْصِ مَعَ الْإِنْسَانِ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، أَوْ تَحَاسُدٌ، أَوْ تَبَاغُضٌ، أَوْ تَنَازُعٌ عَلَى الرِّئَاسَةِ، فَيَتَكَلَّمُ بِمَسَاوِئِهِ مُظْهِرًا لِلنُّصْحِ، وَقَصْدُهُ فِي الْبَاطِنِ الْغَضُّ مِنْ الشَّخْصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ، فَهَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَ{إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} بَلْ يَكُونُ النَّاصِحُ قَصْدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ ذَلِكَ الشَّخْصَ، وَأَنْ يَكْفِيَ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُ فِي دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، وَيَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ أَيْسَرَ الطُّرُقِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ. انتهى.
ونبه شيخ الإسلام هنا إلى أمرين مهمين:
الأول: أن من كان مستترًا بذنبه مستخفيًا، فإن هذا يستر عليه، وينصح سرًّا، ويهجره من عرفه حاله حتى يتوب.
والثاني: يجب أن يكون التحذير منه، وكشف أمره، على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى، لا لهوى النفس.
فهؤلاء الذين ذكرتهم -في سؤالك- من أهل المعاصي، إن كانوا يجاهرون بالمعاصي، فيجوز التشهير بهم في غيبته.
وأما إن كانوا متسترين بمعاصيهم، فلا يشهر بهم، ولكن يذكرون إلا لمن ينصحهم، أو يزجرهم عن فعلهم.
وجاء في الموسوعة الجنائية الإسلامية: المجاهر بالمعصية يجوز التشهير به؛ لأن المجاهر بالفسق، لا يستنكف أن يذكر به، ولا يعتبر هذا غيبة في حقه؛ لأن من ألقى جلباب الحياء، لا غيبة له. اهـ.
وفي أسنى المطالب في شرح روض الطالب: ومن تجاهر بمعصية كشرب خمر، ومصادرة الناس، وجباية الأموال ظلمًا، ذكر بها فقط، أي: لا بغيرها إلا أن يوجد لجواز ذكره سبب آخر. اهـ.
وللفائدة يرجى مراجعة هذه الفتاوى: 6710، 17373، 21816، 123513.
والله أعلم.