السؤال
مقولة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد: هل يصح أن يستدل بها على مطلق الإنكار، أم مقيدة بالتشنيع فيه، وتجاوز الحدود؟
وهل على مطلق الاجتهاد، أم غير مخالف لأصل من الأصول المتفق عليها؟ ومن أول من قال هذه المقولة؟
مقولة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد: هل يصح أن يستدل بها على مطلق الإنكار، أم مقيدة بالتشنيع فيه، وتجاوز الحدود؟
وهل على مطلق الاجتهاد، أم غير مخالف لأصل من الأصول المتفق عليها؟ ومن أول من قال هذه المقولة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما قولك: (هل يصح أن يستدل بها على مطلق الإنكار، أم مقيدة بالتشنيع فيه، وتجاوز الحدود؟) فإن المراد بالإنكار المنفي في قاعدة: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد" هو إنكار المحرمات الصريحة المحكمة، من التغيير باليد عند القدرة، ونقض القضاء بها، ومنع الفتوى والعمل بها، ومن التشنيع والإغلاظ على القول، ونحو ذلك من معاني إنكار المنكر المحكم.
وأما مجرد المباحثة العلمية، ومناقشة الأدلة والحجج، أو الإرشاد إلى اجتناب الأمر المختلف فيه على وجه النصيحة، فليس هو من الإنكار المنفي في مسائل الاجتهاد.
قال النووي: العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر، وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي، في كتابه الأحكام السلطانية خلافا بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة: هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء، إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير؛ لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم ـرضي الله عنهم أجمعين ـ ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي، ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصا، أو إجماعا، أو قياسا جليا. اهـ باختصار من شرح صحيح مسلم.
وسئل ابن تيمية: عمن ولي أمرا من أمور المسلمين، ومذهبه لا يُجوِّز "شركة الأبدان" فهل يجوز له منع الناس؟
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك؛ لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين، في عامة الأمصار. وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على "موطئه" في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه "كتاب الاختلاف" ولكن سمه "كتاب السنة" ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل، كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا، كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر، فلا إنكار عليه. اهـ.
وقال ابن تيمية أيضا: القول بتحريم الحيل قطعي، ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه، وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ، يخرجها من مسائل الاجتهاد، واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة، وكل بدعة تخالف السنة، وآثار الصحابة، فإنها ضلالة، وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره. وحينئذ فلا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها، مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد، وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا. وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها. وقولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها، ليس بصحيح، فإن الإنكار، إما أن يتوجه إلى القول بالحكم، أو العمل.
أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعا قديما، وجب إنكاره وفاقا، وإن لم يكن كذلك، فإنه ينكر، بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماع، وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار، كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهدا، أو مقلدا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس - والصواب الذي عليه الأئمة، أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح، لا معارض من جنسه، فيسوغ له -إذا عدم ذلك فيها- الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها. وليس في ذكر كون المسألة قطعية، طعن على من خالفها من المجتهدين، كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها. مثل كون الحامل المتوفى عنها، تعتد بوضع الحمل. وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل. وأن ربا الفضل، والمتعة حرام، وأن النبيذ حرام. اهـ. باختصار من إبطال التحليل.
وأما قولك : (وهل على مطلق الاجتهاد، أم غير مخالف لأصل من الأصول المتفق عليها): فإن محل قاعدة "لا إنكار في مسائل الاجتهاد" إنما هو في المسائل الخلافية الاجتهادية، وهي كل مسألة ليس فيها نص -أو ما في معناه: كالقياس الجلي- ولا إجماع، كما تقدم في كلام النووي: وكذلك قالوا: ليس للمفتي، ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا، أو إجماعا، أو قياسا جليا. اهـ.
وفي قول ابن تيمية: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك. اهـ. وقوله: وأما إذا لم يكن في المسألة سنة، ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها. اهـ.
وأما قولك: (ومن أول من قال هذه المقولة؟) فإن أصل سواغ الخلاف في المسائل الاجتهادية، وإقرار القول الاجتهادي، وعدم إنكاره، قد حكي اتفاق العلماء عليه.
قال ابن تيمية: وإذا كانت المسألة مسألة نزاع في السلف والخلف، ولم يكن مع من ألزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب، ولا سنة، ولا إجماع: كان القول بنفي لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة، وسائر أئمة المسلمين. اهـ.
فليس هناك كبير طائل من معرفة أول من صرح بالنطق بهذه القاعدة؛ لأن مقتضاها محل اتفاق كما ذكر ابن تيمية.
وهناك نصوص شرعية يستدل بها العلماء على هذه القاعدة، ففي الصحيحين عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا، لما رجع من الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم.
قال ابن عبد البر -معلقا على الحديث-: هذه سبيل الاجتهاد على الأصول عند جماعة الفقهاء؛ ولذلك لا يردون ما اجتهد فيه القاضي، وقضى به إذا لم يرد إلا إلى اجتهاد مثله، وأما من أخطأ منصوصا من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الكافة، أو نقل العدول، فقوله وفعله عندهم مردود إذا ثبت الأصل. اهـ. من جامع بيان العلم، وفضله.
وفي قول ابن عبد البر: "عند جماعة الفقهاء" ما في معنى كلام ابن تيمية من أن القاعدة محل وفاق بين العلماء جميعا.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في المسائل الاجتهادية، ولا ينكر بعضهم على بعض.
قال ابن تيمية: وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها؛ على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والعطاء، والسياسة، وغير ذلك. وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي. وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم. اهـ.
وقد تقدمت أقوال بعض الأئمة من التابعين -كعمر بن عبد العزيز-، فمن بعدهم -كمالك، وأحمد- في تقرير مقتضى هذه القاعدة.
وراجع المزيد في الفتوى رقم: 222994, والفتوى رقم: 228658.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني