السؤال
إذا رتبت العلماء بالترتيب الآتي: آخذ بفتوى الأول، فإن لم أجد فالثاني، وهكذا.
وسؤالي هو: لو أردت أن أستفتي، فلم أجد العالم الأول، وسألت الثاني، ثم تيسر لي بعد أن أسأل الأول. فهل يجب أن أسأله؟
ثانيا: هل يجوز التساهل، وسؤال الثاني، أو الثالث مباشرة دون سؤال الأول، وذلك من دون اتباع للهوى، وإنما يتيسر لي بشكل أفضل أن أسأل الثالث، أو يكون أفتى بها مسبقا، فأبحث عن الفتوى بدون أن أسأل؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة، نعني هل يلزم العامي تقليد أوثق العلماء في نفسه، أم يسعه أن يقلد من عرف بالعلم حتى لو لم يكن الأوثق عنده، بشرط عدم تتبع الرخص، وبالثاني قال أكثر الأصوليين.
وقد بين الطوفي -رحمه الله- هذه المسألة في شرح مختصر الروضة فقال: الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَكْفِي الْمُقَلِّدَ سُؤَالُ بَعْضِ مُجْتَهَدِي الْبَلَدِ» يَعْنِي مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ سُؤَالُ جَمِيعِهِمْ.
«وَفِي وُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ». أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَيَّرَ أَفْضَلَ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَسْتَفْتِيَهِ؟ فِيهِ «قَوْلَانِ»: بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ «النَّافِي»، أَيْ: احْتَجَّ النَّافِي لِوُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا «عَلَى تَسْوِيغِ سُؤَالِ مُقَلِّدِيهِمُ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ»، أَيْ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ فَاضِلَهُمْ وَمَفْضُولَهُمْ، وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ، وَإِلَّا كَانَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- خَطَأً، وَهُوَ بَاطِلٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَنَّ الْفَضْلَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ» بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ، فَلْيَكْفِ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ «وَلَا عِبْرَةَ بِخَاصَّةِ الْأَفْضَلِيَّةِ».
قُلْتُ: وَلِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي رُتْبَةِ الْفَضَائِلِ، فَمَا مِنْ فَاضِلٍ إِلَّا وَثَمَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يُوسُفَ: 76].
قَوْلُهُ: «الْمُثْبِتُ»، أَيْ: احْتَجَّ الْمُثْبِتُ لِوُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ بِأَنَّ «الظَّنَّ الْحَاصِلَ مِنْ قَوْلِ الْأَفْضَلِ أَغْلَبُ»، فَيَكُونُ وَاجِبًا، أَمَّا الْأُولَى، فَظَاهِرَةٌ، وَأُمَّا الثَّانِيَةُ، فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لِتَعَذُّرِهِ، فَوَجَبَ الظَّنُّ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ.
قُلْتُ: الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَالْأَوَّلُ أَيْسَرُ، وَالثَّانِي أَحْوَطُ. انتهى.
وفي إرشاد الفحول للشوكاني رحمه الله: وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ جَمَاعَةٌ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، الْمُسَوِّغَةِ لِلْأَخْذِ عَنْهُمْ، فَالْمُسْتَفْتِي مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَإِلْكِيَا: إِنَّهُ يَبْحَثُ عَنِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ، فَيَسْأَلُهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْأَعْلَمَ أَهْدَى إِلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ. انتهى.
ولعل القول الأول أرجح؛ لما فيه من اليسر، ولقوة مأخذه، وكثرة القائل به، وتنظر لمزيد الفائدة، الفتوى رقم: 169801.
وإذا علمت هذا، تبين لك أنه لا حرج عليك في استفتاء العالم المفضول مع وجود الفاضل، ما لم تقصدي تتبع الرخص، ويسعك العمل بقوله إذاً.
والله أعلم.